مفاوضات المعلم مبارك
رافقت العم مبارك إلى مدينة أخرى عبر سيارته الشبيهة بسيارة توزيع الخبز على المحلات الصغيرة. إنها "رينو إكسبريس"، ومن لا يعرفها؟
تجاوز عمر العم مبارك السبعين، إلا أنه ما زال قوياً ونشيطاً ومداوماً على العمل. بعد التقاعد، أصبح تاجر خردوات عبر الإنترنت. يعمل، مستعيناً بنظارة طبية ذات زجاج سميك، يتفقد العروض المغرية على موقع ماركت بلاس.
يمكن القول إنه حرفي بالفطرة، كما بالتجربة الطويلة أيضاً. باختصار إنه: مْعلّم. "المْعلّم مبارك"، هكذا تحلو لي مناداته. أرى ابتسامة زهوه العريضة وفخره العظيم بنفسه كلّما ناديته بالمعلّم، هكذا مشدّداً الحروف. لا يقرأ ولا يكتب، إلا أنه يتحدث اللغة الهولندية بشكل سليم. إضافة إلى ذلك، أنشأ صفحة على "فيسبوك"، وعلى مواقع بيع وشراء الخردة الرخيصة. يستعمل الميكرفون للتواصل مع الزبائن عبر الرسائل. ثمن السرير، مثلا، ألف يورو، لكن العم مبارك يقترح خمسين يورو فقط. ثمّ أخيراً، يحصل على السرير مقابل مائة يورو، وسيبيعه بعد أسبوع بخمسمئة يورو على الأقل. صفقة جيدة بالنسبة إلى رجل من جيل حرب "لاندوشين". هو يستعمل "الجي بي إس" أيضا للوصول سريعاً إلى أهدافه.
بلغت بنا السيارة عنوان البيت الهدف. دخلنا. صاحبة البيت هندية، توفيت أمها قبل شهر، تحتاج إلى إفراغ البيت من الأثاث، بيعه بالضبط، لكن بأثمنة لن تكون في الغالب في مصلحة أحد سوى العم مبارك. إنه صيّاد ماهر، يشمّ على بعد مئات الأميال هذا النوع من الطرائد الجريحة والتائهة. تعرض الهندية الأثاث أمامنا متحدثة عنه بحسرة، "إنه أثاث جيد، هذا التلفاز ثمنه الأصلي سبعمائة يورو، اشتريته لأمي قبل خمسة أشهر فقط، ما يزال جديداً، انظرا".
"حسنا، لست في حاجة إلى التلفاز".. قال المعلّم مبارك ثم تقدّم قليلاً داخل البيت، عاقداً يديه خلف ظهره كجابي الضرائب. "أريد ذلك السرير وهذه الكنبات". "لا بأس" قالت الهندية، ثمّ تابعت "اشتريت السرير بكذا واشتريت الكنبات بكذا". عدّل المعلم مبارك طاقيته، وقال: "لا يبدو لي يا سيدتي أنك واعية بما تقولين. لست زبوناً، بل جئت فقط لأخلصك من هذه الخردة". لا أريد معرفة أثمنتها وهي جديدة. إنها قديمة الآن، ولا أحد سيدخل إلى بيته أثاثاً نامت عليه سيدة عجوز شهوراً عديدة. سأخلصك من هذه الخردة فقط. السرير، الأثاث، التلفاز، ماكينة الصابون، الثلاجة، الملابس، السخان الكهربائي، ماكينة القهوة، الميكروويف، طاولة الطعام، الكراسي، تلك الأحذية إلخ.. أنظري إنها الخردة التي أقصد". قال هذا، وهو يحرّك يده باستهتار، وبلا مبالاة، مشيراً بها إلى الأثاث.
العم مبارك صيّاد ماهر، يشمّ على بعد مئات الأميال الطرائد الجريحة والتائهة
"ليس لديّ الوقت لأتفقدها، واحدة واحدة، لكن في جيبي ألف يورو، ها هي". أخرجها ولوّح بها كعصا موسى أمام الهندية التي فغرت فمها لحظة.
"مستحيل" قالت، ثم تابعت "لا يمكن بيع كلّ ذلك مقابل ألف يورو، إنه ليس ثمن السرير وحده. انظر فاتورته. هذا كله يؤلمني، إنه أثاث أمي، كيف ترى أنه يساوي ألف يورو فقط؟؟". انخرطت بعد ذلك في موجة بكاء غامضة، متذكرة أمها ربما، أو محاولة التأثير في قلب المعلم مبارك.
"لا تبكي يا ابنتي، كلنا سنموت، وأفضل ما قد تنفعين به أمك الآن هو التصدّق بأثاثها ومتاعها، وليس التفاوض حوله هكذا، سيتعبك الأمر صدقيني، سيرهق أعصابك. اسمعي، لن تجدي في هذا البلد كله من يعطيك ألف يورو مقابل بضاعة لا أحد سيشتريها. سأحتاج عاما لأبيعها، إضافة إلى أنّ بيتي صغير، أين سأخزّنها في نظرك؟ لقد أشفقت على حالك، لذلك غامرت بكلّ هذا المبلغ مقابل كلّ شيء. هذا أفضل لك من أن تبيعي الخلاط وحده، والتلفاز وحده، وفرشاة الأسنان وحدها. يبدو واضحاً أنك سيدة أنيقة، ولست تاجرة خردوات، بالتالي أقدّر أنّ كلامي يبدو لك غريباً. حسنا أنا مستعد للذهاب الآن، يمكنك الاحتفاظ بأثاثك وبيعه بطريقتك". "كلا" قالت الهندية. "أنا مضطرة لإفراغ البيت في أسرع وقت. حسنا فليكن، ألف يورو، حسنا موافقة..".
شرطي هولندي وصل إلى البيت ونحن نسحب بعض أثاث الصفقة في اتجاه السيارة. دخل مرتدياً زيّ الشرطة. خفق قلبي، وشعرت بتعرّق سريع، اعتقدت أنه جاء لاعتقالنا بتهمة سرقة أثاث بيت في واضحة النهار. إنه زوج الهندية، عرفت ذلك، فعاد إليّ هدوئي. أخبر زوجته أنّ ألف يورو ثمن بخس مقابل كلّ ذلك الأثاث. لم تعره اهتماماً، بدت ساهمة للغاية كمخدرة. ملأنا السيارة. ضغط العم مبارك على مبدّل السرعة، ثمّ قال "علينا أن نسرع. سنعود بعد نصف ساعة بسيارة ستافيت كبيرة من أجل السرير والكنبات والطاولة".
"حسنا لماذا لا ننتظر حتى الغد؟" سألته. "كلا" أجاب بحسم، مردفاً "علينا الإسراع قبل أن يغيّروا رأيهم". حسناً، قلت في نفسي "لا يمكنني أن أفهم في هذه الأمور أفضل من المعلم مبارك". سألته بعد صمت دام ما يقارب ربع ساعة: "ألم تلاحظ أنّ رأي زوجها لم يستطع التأثير في قرارها؟ بل لقد تفاوضت معك في غيابه، وحسمت كلّ شيء دون استشارته؟".
أجاب: "هنا، الزوجات هنّ من يحكم وليس الأزواج. الأزواج هنا لا يحكمون، إنه شرطي في الخارج فقط وليس في البيت، تحقّقْ من العنوان على "الجي بي إس" إن كان صحيحا".
اقتربت بغباء من الشاشة. إنه صحيح. سمعته يقول "إنها صفقة جيدة". وافقت على كلامه: "نعم إنها صفقة عظيمة...".
انخرطنا بعد ذلك في صمت طويل، وقد شعرت أني لا أجيد شيئاً سوى التحقّق من شاشة "الجي بي إس"...