مسلمو أوروبا: تحديات الدين والهوية والاندماج
يميلُ كثيرٌ من المهاجرين واللاجئين والنازحين عن أوطانهم إلى الحديثِ عن الحياة خارج أوطانهم (الأصلية) بوصفها حياةً آمنةً في منفىً خالٍ من كلِّ متعةٍ. هذا هو الانطباع الذي يُمكن أن يتشكّل لدى قارئ نصٍّ جميلٍ كتبه مؤخرًا المفكر السوري ناشر النعم محمد أمير. ومن منظورٍ مشابهٍ، تبدو الحياة في الغربةِ امتحانًا، ليس سهلًا تجاوزه، ومحنةً مليئةً بالمعاناة في كلِّ الأحوال. هذا هو الانطباع الذي يمكن أن يتكوّن لدى من يقرأ إهداء كتاب مهمٍّ ورائدٍ في مجاله صدر مؤخرًا، عام 2024، للباحث السوري المقيم في ألمانيا، محمد نفيسة عن دار المحيط للنشر، تحت عنوان "مسلمو أوروبا تحديات الدين والهوية والاندماج". والإهداء موجّهٌ إلى زوجته وأولاده بوصفهم شاركوه "معاناة الهجرة وآلام الاغتراب". وحتى كلمة "تحديّات" في العنوان الفرعي للكتاب تُوحي بأمرٍ صعبٍ فيه معاناة الامتحان والمحنة المذكورين آنفًا.
هذه النظرة الأحادية إلى الهجرة والحياة خارج الوطن، تغيبُ عمومًا في ثنايا الكتاب الذي يقع في قرابة 250 صفحةٍ، لتحلّ محلّها رؤيةٌ مزدوجةٌ أكثر جدليةً وتركيبًا وتوازنًا. فالكتاب، من عنوانه الرئيس "مسلمو أوروبا"، يتحدّث عن ثنائيةٍ، أو يحيلّ عليها، أو يتضمّنها ويناقشها. فالموقع الذي ينطلق منه، ويتناوله، هو موقع البينية. فكما هو واضحٌ في العنوان الرئيس، يتناول الكتاب العلاقة بين المسلمين وأوروبا. ويتناول تلك العلاقة من منظورِ الإسلام أو الفقه الإسلامي من جهةٍ، ومن منظورِ الواقع المعاصر والمنظومةِ الحقوقية الأوروبية والقانونية من جهةٍ أخرى. ويخوضُ الكتاب في مسائل تنتمي، عادةً، إلى حقولٍ معرفيةٍ متمايزةٍ: فمسائل الهجرة والاندماج والهُويّة تنتمي، عادةً، إلى حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، في حين أنّ مفاهيم الولاء والبراء، ودار الإسلام ودار الحرب، تنتمي إلى حقل الفقه والعلوم الشرعية الإسلامية.
وتظهر بينية الكتاب وتبنيه لرؤيةٍ ثنائيةٍ، لا أحاديةٍ، وجدليةٍ، لا مثنويةٍ، في رفضه للنظرةِ الأحادية التي ترى تناقضًا لا فكاك منه، وتعارضًا لا تجاوز له، بين الإسلام والمنظومة أو المنظومات السياسية والقانونية والاجتماعية الأوروبية؛ كما تظهر تلك البينية، ويبرز ذلك التبني، في نقده للرؤية الأحادية التي تختزلُ حضورَ الإسلام في المسلمين، وفي عملية اندماجهم في المجتمعات والدول الأوروبيّة في تأثيرٍ سلبيٍّ.
إنّ الحياة في الغربةِ امتحان، ليس سهلًا تجاوزه، ومحنة مليئة بالمعاناة
فمن جهةٍ أولى، يُحاججُ الكتاب بلا-إسلامية (جزءٍ من) التأثير السلبي المنسوب إلى الإسلام، ويحاول أن يبيِّن أنّه فهمٌ مغلوطٌ أو مغالطٌ يتنافى مع ما يراه الكتاب "الإسلام الصحيح" المُستند إلى النصوصِ الإسلامية الأساسية المؤسّسة، أو الإسلام المناسب للسياق التاريخي الحالي. وتتضمّن هذه المحاجَّة القول بوجود خلطٍ، لدى كثيرين من المسلمين وغير المسلمين، "بين ما هو دينيٌّ وتؤيّده الأدلة الشرعية، وقطعيٌّ ثابتٌ من المبادئ الكلية الإسلامية من جهةٍ، والأحكام الخاضعة للنظر والاجتهاد التي تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة والاحوال، من جهةٍ أخرى. فإذا كان من المفهوم والمعقول تقسيم العالم، في العهودِ الغوابر، إلى دارٍ الإسلامٍ ودار الحرب، فإنّ الكتاب يُحاجج بضرورةِ أن تتخلّى الرؤية الإسلامية المعاصرة عن هذا التقسيم وتتجاوزه؛ لأنّه فقد القدرة على أن يعبِّر، لا عمّا هو كائنٌ، ولا عمّا يجب أن يكون، في السياق التاريخي المعاصر. وانطلاقًا من ذلك الفقدان، لا يكون التخلّي عن ذلك التقسيم تخلّيًا عن الإسلام أو عن رؤيةٍ دينيةٍ واضحة المعالم في النصوص الإسلامية المؤسسة (القرآن والحديث)، وإنّما هو تخلٍّ عن رؤيةٍ فقهيةٍ بشريةٍ ترى أنّ الأصل في علاقةِ المسلم بغير المسلم هو التحريم والحرب؛ في حين إنّ الكتاب يبيِّن أنّ ذلك الأصل يتجسّد في الإباحةِ والسلم. ولتسويغِ أطروحته، يقدّم الكتاب رؤيةً فقهيةً تستندُ إلى النصوصِ الدينية المؤسّسة وتناقش النصوص الفقهية المتأسّسة عليها، من جهةٍ، كما يقدّم رؤيةً وصفيةً لأوضاعِ العالم الراهن ولما يمكن وينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان (المسلم) مع الآخر، من جهةٍ أخرى. ولهذه القطيعة مع الفقه العتيق المهيمن غالبًا، حتى في الحاضر، في ما يخصّ علاقة المسلم مع الآخر، نتائج منهجيةٌ ومعرفيةٌ وأخلاقيةٌ واجتماعيةٌ وسياسيةٌ بالغة الأهمية من الناحيةِ النظرية، ويمكن أن يكون لها الأثر نفسه من الناحية العملية، في حال تبنيها وتطبيقها. ومن الناحيةِ الدينية والمعيارية، يبدو التمييز بين الإسلام الصحيح والإسلام غير الصحيح مهمًّا وضروريًّا، لكن من الناحية الوصفية والعملية، ليس لهذا التمييز قيمةٌ كبيرةٌ، لأنّ المهم هو رؤية الفاعلين لما هو الإسلام، وليس رؤية الباحث المختلفة عن رؤيةِ كثيرين من هؤلاء الفاعلين، وربّما أغلبهم.
ومن جهةٍ ثانيةٍ، يعملُ الكتاب على أن يبيِّن أنّ "تأثير الإسلام" ليس سلبيًّا (دائمًا)، وأنّ هناك مبالغةً و/ أو جهلًا و/ أو تجاهلًا، في هذا الخصوص. ومن هنا ينبع سعي الكتاب إلى صوغِ مفهومٍ إيجابيٍّ للاندماج يحقّق مصالح المهاجرين المسلمين وسكان البلاد من غير المسلمين، في ضوءِ القيم والمقاصد الشرعية. وفي سبيل صوغ هذا المفهوم، يناقشُ الكتاب ما يسميّه "عقيدة الولاء والبراء"، ويوجِّه انتقاداتٍ شديدةً (محقةً) لمتبني تلك العقيدة في السياق التاريخي الراهن. وفي الردِّ على الاعتراضاتِ القائلة إنّ تلك العقيدة ليست حاضرةً في الخطابات المعاصرة للمسلمين عمومًا، وإنّ الأمر ذاته ينطبق على كثيرٍ من المسائل أو المفاهيم التي يناقشها الكتاب، ومنها تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب أو الكفر، يشدّد الكتاب على أنّ هذه المسائل والمفاهيم والأفكار والقيم حاضرةٌ ضمنًا ومن خلال نتائج نظريةٍ وممارساتٍ عمليةٍ، حتى لو لم تكن حاضرةً حضورًا صريحًا وواضحًا.
مسائل الهجرة والاندماج والهُويّة تنتمي، عادةً، إلى حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، في حين أنّ مفاهيم الولاء والبراء، ودار الإسلام ودار الحرب، تنتمي إلى حقل الفقه والعلوم الشرعية الإسلامية
إنّ النظرةَ المعيارية التي تسودُ مقاربة الكتاب لمسائل علاقة المسلم بالآخر، حيث يتبنى الكتاب أطروحةً ويرفض الأطروحة أو الأطروحات المختلفة عنها والمخالفة لها، تختفي، جزئيًّا على الأقل، عند تناول الكتاب وضع المرأة المسلمة في أوروبا. ففي هذا السياق، لا يسعى الكتاب إلى تقديم الرأي الفقهي الديني الصحيح، في ما يتعلّق بالحجاب، بل يسلِّم بأنّ هناك من يراه فريضةً دينيةً وتعبيرًا عن هُويّةٍ ثقافيةٍ ينبغي الحفاظ عليها، وأنّ هناك مسلمات لا يرتدين الحجاب، وأنّ بعضهن يرين ذلك تقصيرًا في الالتزامِ بواجبٍ دينيٍّ، وأنّ هناك أخريات يرين أنّ الأوضاع تقتضي عدم ارتداء الحجاب للتكيّف مع ظروف التعلّم والعمل، وأنّ هناك مسلمات يرين أنّ الحجاب ليس فريضةً دينيةً، أصلًا. ويظهر الكتاب هنا رحابة صدرٍ في عدم نفيه أو إنكاره إسلاميّة كلّ هذه الآراء المختلفة أو المتناقضة، وفي تشديده الجميل والمهم جدًّا على أنّ "الفيصل في قضية اللباس والحجاب والنقاب هو إرادة المرأة" التي لها وحدها حق تقرير ما تراه مناسبًا لها في هذا الخصوص. لكنه يبدي رؤيةً معياريةً سلبيةً واضحةً تجاه مسألة تحجيب/ حجاب الفتيات اللواتي لم يبلغن الرابعة عشرة من العمر. ويرى أنّ ذلك الحجاب ليس واجبًا دينيًّا، "ولم يأتِ به لا شرع ولا دين"، وأنّه غير مناسبٍ عمليًّا، وغير مفهومٍ أو مقبولٍ نظريًّا. كما يبدي تفهمًا، جزئيًّا، لعمليات منع النقاب، انطلاقًا من الأسباب الأمنية التي تتضمّن إمكانية استخدام النقاب في عمليات التخفي وممارسة الجرائم وإلحاق الأذى بالمجتمع والأبرياء عمومًا، وانطلاقًا من النظرة الدينية التي ترى أنّ النقاب ليس فريضةً دينيةً.
وبالروح البراغماتية المنفتحة والمرنة ذاتها، يعالجُ الكتاب مسألة الاختلاط بين الجنسين في أوروبا، حيث يتجنّب إعطاء حكمٍ معياريٍّ على المواقف المختلفة في هذا الخصوص. ويبدو وكأنّه يتبنى رؤية النسبوية الثقافية في هذا الخصوص، من حيث إنّه يدعو إلى احترام الاختلاف بين الناس والثقافات والمجتمعات وضمنها، وعدم محاكمة الآخرين، انطلاقًا من اختلافهم، في هذا الصدد. إنّ تبني الكتاب لهذه الروح المنفتحة المتقبلة والمتفهمة لوجهاتِ النظر المختلفة، في هذا الخصوص، أمرٌ محمودٌ، لكن الثمن الذي يدفعه يبدو باهظًا كثيرًا. فنتيجةً لحرص الكتاب على إيقافِ الأحكام المعيارية في بعض السياقات، فإنّ رؤيته تفتقر كثيرًا إلى البعدِ النقدي في خصوصِ بعض المسائل والمواضيع، حيث يقتصر على الدعوةِ إلى تفهم الاختلافات وتقبلها، من دون ممارسةِ أيّ نوعٍ من أنواع النقد على بعض هذه الاختلافات، والمفاضلة بينها. فعلى سبيل المثال، يشيرُ الكتاب إلى التصوّرات السائدة لدى مسلمين ومسلمات كثر، والتي تجعل "المرأة محلًّا لشرف الأسرة أو العائلة أو القبيلة"، لكنه لا يظهر أيّ رؤيةٍ انتقاديةٍ أو حتى نقديةٍ تجاه تلك التصوّرات، ولا يقارن أو يفاضل بينها وبين "الرؤية الغربية" التي أصبحت تُعطي الأولوية لقيمةِ الكرامة، وتهمِّش أو تلغي قيمة الشرف، بوصفها مرتبطةً بجسدِ المرأة أو بنسب الشخص. ولعلّ الكتاب أكثر توفيقًا في إيقافِ أو تعليق إطلاق الاحكام المعيارية، عندما يتناول مسألة التواصل بين الجنسين في أوروبا (المصافحة والتقبيل والعناق)، حيث لا يرى أفضليةً لطريقةٍ على أخرى، ويعطي الأولوية لفهم الآخر وتقبّله، وعدم فرض أيّ طرفٍ قيمه وطريقته في التواصل على الطرف الآخر؛ ويؤكد أنه من الآداب الجميلة التي يُفضل أو تنبغي ممارستها، في هذا الخصوص، "رد التحية بأحسن منها والإقبال على الآخر، بسلامٍ دافئٍ"، ومجاراة الآخر في طريقةِ تواصله وسلامه قدر المستطاع.
أحيانا يتم تحويل ثنائية المسلمين وأوروبا إلى مثنويةٍ، والإفراط أو المبالغة في إبراز الاختلافات بين الطرفين
وفي خصوصِ المسائل المتعلّقة بالزواج والعلاقات الجنسية في أوروبا، ينطلق الكتاب من التسليم بوجودِ اختلافاتٍ في القيم والتوجّهات بين التعاطي الإسلامي والتعاطي الغربي/ الألماني مع هذه المسائل. فالتعاطي الأول جماعاتيٌّ في حين أنّ التعاطي الثاني ليبراليٌّ وأقل جماعيةً. ويحاجج الكتاب بضرورةِ معرفة هذه الاختلافات وفهمها، ويدعو إلى أهمية أو فائدة أخذها في الحسبان؛ لكنه لا يوضّح كيف يمكن التوفيق بين هذين التعاطيين، أو التعامل معهما، عندما يكونان في حالةِ صدامٍ وتنافرٍ تفرض الاختيار بين أحد طرفيه. وفي الفصل الأخير، تكون الروح التوفيقية أكثر وضوحًا وتحديدًا، حيث يرى الكتاب ضرورة الابتعاد عن الزواج الأهلي/ الإسلامي غير المسجل، ويُعدّ ذلك الزواج "وصفةً لضياع الحقوق والأنساب"، ويرى أنّ "الطريق الأفضل لإنشاء علاقةٍ زوجيةٍ متينةٍ وقانونيةٍ وإسلاميةٍ في ألمانيا" "هي أن يُسجَّل الزواج في الدوائر الرسمية أولًا، ثم يُنظَّم العقد وفق أحكام الشريعة الإسلامية". ويرى أنّ هذا الجمع بين الزواج الإسلامي الأهلي والزواج القانوني الألماني "يحقّق المبتغى في بناء الأسرة المتماسكة، والحفاظ على حقوق الطرفين، وحماية الأطفال الناتجين عن الزواج، والحيلولة دون الوقوع في شباك الخديعة والتدليس والهروب من المسؤولية والتحكم المسرف".
يزخرُ الكتاب بالكثير من المعلوماتِ المهمة والمفيدة المتعلّقة بالمواضيع المتنوّعة التي يتناولها، لكن الكتاب يفتقر إلى خاتمةٍ أو نصٍّ ختاميٍّ يجمل رؤيته ويعرض النتائج التي توصّل إليها، ويسبرُ الآفاق الممكنة لأوضاع المسلمين في أوروبا عمومًا، وللتحديّات المتعلّقة بمسائل الدين والهُويّة التي تواجههم وتواجه أو توجِّه (عدم) اندماجهم، خصوصًا. وكان بإمكان سبر الآفاق المذكور أن يعزّز حضور المقاربة المستندة إلى المنظورِ المعرفي والمنهجي للعلوم الاجتماعية، وبغيابه كان حضور المنظور الديني التوفيقي هو المُهيمن في المقاربةِ التوفيقية بين رؤيتين إحداهما دينيةٌ إسلاميةٌ والأخرى قانونيةٌ أوروبيةٌ. وعلى الرغم من حرصِ الكتاب، غالبًا، على إظهارِ تنوّعِ وجهاتِ النظر لدى المسلمين من جهةٍ، وفي أوروبا من جهةٍ أخرى، فإنّه ليس نادرًا تحويل ثنائية المسلمين وأوروبا إلى مثنويةٍ، والإفراط أو المبالغة في إبراز الاختلافات بين الطرفين، وتجاهل وجود قواسم مشتركةٍ كثيرةٍ بينهما، وأنّ الاختلافات الموجودة في كلِّ طرفٍ قد تكون أكثر وأكبر من الاختلافات الموجودة بين الطرفين المذكورين. قد يكون من النافل القول إنّ الكتاب ليس موجّهًا إلى القارئ الأوروبي/ الألماني غير المسلم، وإنّما هو موجّهٌ إلى القارئ المسلم عمومًا، وإلى ذاك المقيم في أوروبا بالدرجة الأولى، والثانية أيضًا. ولهذا السبب، يبدو، أحيانًا على الأقل، أنّ النقد الموجّه إلى الأفكار والقيم والتصرّفات (السلبية) الموجودة لدى المسلمين أكبر وأقوى من ذاك الموجّه إلى الطرف الأوروبي غير المسلم. لكن الباحث محمد نفيسة يمارس، عمومًا، ذلك النقد برصانةٍ وودٍّ وعقلانيةٍ، بحيث لا يتخذ ذلك النقد شكل "الهت والتعيير" المرذولين، بل يبدو أقرب إلى "النقد الذاتي"، المُستحسن.