مسك ختام المونديال
بكلمات لا يُفسرها إلا من يُدرك عمق ثناياها عندما ينطقها لسان تميم البرغوثي؛ تُصنع النهايات الجميلة؛ وهل من جمال هنا يعدو جمال تميم حين يطل متوشحاً بكوفية فلسطين في اختتام كان مسكاً لكأس عالم استثنائي؟
يتقدم تميم، يخطو على المسرح، يشكل بمفرداته عالماً بديلاً كما وصفه؛ ينثر شعره حباً وشوقاً وحزناً ووطناً حيث ترى فلسطين بين كل حرفين؛ وهما يتسارعان في الخروج على الملأ ليصدحا بقضية أمة، وهو يروي بكلمته النثرية كما أسماها هو، وكما أبصرتُ أنا خلفها تناقض العدالة في قصة اغتصاب أرض وتشريد شعب، وهو يحكي عن متعبين ارتقوا وما زالوا أحياءً في ضلوعها، وعالم موازٍ يعيش فيه متزيناً بكوفيته السمراء، وصراع متكافئ القوة مغاير لواقع إرهاب ترسانة حرب عسكرية أمام حجر وبارودة، ومقاومون يعودون إلى أدراجهم سالمين دون أن يسيل منهم الدم بعد أن سددوا رميهم بوجه محتلهم، ويكملُ تميم كلماته وكأني أسمع خلفها طلقات مقاومة؛ لأحيا بدقائق في عالمه الذي أخذني كحلم مشتهى من يوم التحرير..
وهنا دخلت في سبر أغوار هذا العالم، وأخذت ذاكرتي تستحضر قصائده وكل شعراء البلاد المحتلة التي أقفلت خزائنها عليها، وانتفضت أوراق كراستي التي ترافقني منذ الطفولة لتتناثر حاملة شعرهم ذلك الذي نطقه أحرار في زمن تكدست به حشود من المنبطحين؛ حيث كلماتهم تأخذك إلى بلادك محلقاً فوق سماء القدس لتُصلي بمحرابها وثم تتسكع في رام اللّه والبيرة، وتُبحر في يافا وعكا وصولاً إلى بحر نُبل مقاومة غزة، لتعود أدراجك إلى نابلس وجنين تلقي تحية الإكبار للمقاومة هناك، وتأخذ قسطاً من الراحة وتأمن في حارة الياسمينة في ظل بنادق أسود العرين، وتُكمل تجولك في كل فلسطين تقتفي بها خطوات الفدائيين والشهداء حتى تصل جنوب لبنان وأنت تقبل ثرى تطهر بدمائهم، وتعود مرة أخرى إلى قصائده ليأخذ بيدك إلى القاهرة ودمشق وبيروت ويدعك تتجول بين أزقتها وتُكمل دربك بين أوطان عربية وحدها شعر تميم ومن احتذى بهم؛ رغم أنف استعمار وإمبريالية وظُلام مزقوها لأشلاء، فتراه يخط حروف فلسطين الستة في كل بيت شعر حتى ولو كان عن قصة عشيقين، ففلسطين بوصلة كلمات تميم ومن يجهلها فقد يجهل تاريخ نطقه تميم ومن سبقوه...
ربما لذلك استفزت مشاعري كلمات هذا الشاعر الأصيل؛ فأسرعت لتشغيل التلفاز على حفل اختتام كأس عالم لكرة قدم أجهل عالمها ولا أكترث بها، لكن اليوم وفي نهاية هذا الكأس الذي اختتمته كوفية تميم كما بدأته أعلام فلسطين
وربما لذلك استفزت مشاعري كلمات هذا الشاعر الأصيل؛ فأسرعت لتشغيل التلفاز على حفل اختتام كأس عالم لكرة قدم أجهل عالمها ولا أكترث بها، لكن اليوم وفي نهاية هذا الكأس الذي اختتمته كوفية تميم كما بدأته أعلام فلسطين، واجب علينا أن نحفظ ما جرى به وأن نرويه.. فهذا كأس حصدته فلسطين، والبوصلة العربية التي لا تحيد عنها، فهذه الشعوب هي من تثبت يومياً سقوط مشروع التطبيع وعرابيه، وتجيّر كل مناسبة وإن كانت في مرمى كرة القدم ليرموا الانبطاحيين وعملاء بني صهيون واتفاقيات الذل التي أبرموها من أوسلو مروراً بوادي عربة وصولاً إلى تلك التي تنضوي تحت فُجر ما سميت بـ"اتفاقيات أبراهام".
وعلينا أن نروي لأبنائنا بأن العربان سددوا رميهم في كأس العالم هذا وهم يُجددون قسمهم بأن الجلوس مع الصهاينة حرام، والحوار معهم حرام، وحتى التقاط ذات النفس الذي يلتقطونه حرام، ورغم امتعاضهم وغبنهم كحالي من وجود الصهاينة في كأس العالم هنا؛ إلا أنهم لقنوا أيتام العدو درساً هاماً من الطفل إلى الكهل بأن لا حوار ولا سلام معكم ورؤوسكم لا تعلو في بلاد عربية، فلتطموا رؤوسكم بالتراب، فالكأس تاريخياً، واليوم وكل يوم وحين لفلسطين العلم الذي لم يغِب ثانية عن المدرجات والشوارع، علم البلاد التي تحصد كل كؤوس في هذا العالم بأرضه وسمائه بصمود أبنائها وهم يسددون فاتورة الدماء وينتزعون الثأر ويمضون في مشروعهم التحرري ثانية بثانية وشبراً شبراً، وهم يسددون بالدم رميات إلى إرهاب الصهيوني، ويقفون خط دفاع حراساً لشرف العروبة وعرضها، ويستشهدون ويؤسرون ويجرحون وينكل بهم يومياً.. ولا يتوقفون عن تحقيق الحلم بوطن لا يُدنسه هذا المحتل.
وعلينا أن نقول إن شعوبنا أعادت التشديد على لاءات ثلاث غفلت عنها عيون جالسين بالقمة العربية حين تعاهدوا في زمن لم تكُن قد احتضرت فيه الكرامة بعد بأن "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف" بالكيان الصهيوني، وأبرم بعض من حكامها اتفاقيات ذل وسلام إلا أن الشعوب لم تُبرم سوى اتفاقية واحدة ألا وهي: الحرية لفلسطين والمجد لمقاومتها والوفاء لشهدائها.
وكما بدأت تدوينتي هذه باسم بتميم، تأبى حروفي إلا أن تختتم بكلماته، التي لطالما اعتادت روحي أن ترددها من أولها حتى أخيرها وليس آخرها في نشيده لمريد.. أكتبها وأرددها وكأني للمرة الأولى أسمعها في كل مرة ويستوقفني حين يقول: "وإنّ علي بسفك دمي ودماء العدا في غدٍ نصره، وأدرك أني سأدرك من كل أعدائه ثأره".
وهنا أبصرُ من ارتقوا فداءً للأرض شهداء وهم يصعدون إلى حتفهم باسمين، ينظرون من أعلى وهم ينتظرون الثأر، وأقسم كما أقسم بأني سأسفك دم أعدائهم ودمي هذا لأجل تسديد ثأرهم، وسأمضي على ملعب أسجل به أهدافي بأعداد تفنى من جيش المحتل، وسأمكث أسدد برميي حتى تصعد الروح وتلتقي مقاومين أبراراً سددوا أهدافهم بحنكة حاكها الوطن وارتقوا، وثم أعود لواقعي أنظر لصورهم أتأملهم أخطّ لهم الكلمات ونار الثأر تكويني وهي تشتعل في فؤادي، وأتوسل اللّه بأن يرينا معجزاته بهم فيحاصرني قهري حتى كاد أن يقتلني، فأهرول لأحتمي بكلماته في بيانه العسكري وهو يصدح "نحاصرُ من أخ أو من عدوٍ، سنغلب وحدنا وسيندمانِ، سنغلبُ والذي جعل المنايا بها أنفٌ من الرجل الجبان...".
وفجأة يعلو صوت تميم من حولي في كل الزوايا هنا؛ وكأنه ينطق بحال كل فلسطيني يكابد شقاء اللجوء وولع الاشتياق لتقبيل ثرى الوطن لثانية وإن كان ثمنها دماءه فأصغي له لكلماته، وأغفو وهو يُحذرنا من تعاظم هذا الشجن القاتل داخلنا قائلاً "إذا صمدت للموت روحك فانتبه كي لا يُميت الروح منك صمودها، وإن جمُد الدمع اكتفاءً من البكاء فأقتل حالات الدموع جمودها..".