جنين أو حين تكفر المجزرة بمعناها
تمرّد الأمل داخلي، حتى جعلني أظن أنّ ثمة مهادنة مع الدم، ستفلح بإيقافه ليوم واحد على الأقل. لكن، عبثاً، لا أمل يُنسج هنا طالما المحتل الغدار حي على أرضنا التي تنقلب بها حتى معادلة الموت الذي يخطفه المقاومون بدلاً من أن يخطفهم هو، فتراهم يسعون إلى الشهادة بكلّ ما أوتوا من قوة من أجل صون ثرى فلسطين، وتسديد ثأر دماء أقمارها الشهداء، فتراهم يكمنون للعدو ويواجهونه ويشتبكون معه ولو بطلقة واحدة، فيما هو يتمادى بإرهابه، وارتكاب مجازره، والتي كانت آخرها فجر الخميس (26 يناير/كانون الثاني 2023)، حين استيقظت جنين على دم أخذ يطهرها، وهي تتزّين بأبطالها التسعة الذين طاولوا السماء في أعقاب مجزرة المحتل.
المجزرة تلك كفرت بمعناها الذي تحمله، وهي تبصره في وحشية هذا العدو الذي يعتاش على القتل والدم والدمار في جنين العزة ومخيمها أسطورة الصمود، واللذين أصبحا على وابل من رصاص مقاومين، لم ولن تغفو أعينهم، أحياءً وشهداء، وهم يطلقون رصاصهم لمواجهة إرهاب المحتل الصهيوني محققين الإصابات في صفوفه اللعينة، فيما هو يحاول تحويل المخيم إلى ركام، على وقع جرائم ترتكب بين اغتيال وإعدام، وقتل من المسافة صفر، باستخدام القذائف والقنابل تارّة، والدبابات والمصفحات والطائرات المسيّرة التي تهبهم إياها دول حرّمتها دولياً، تارة أخرى.
استمرت مجزرة المحتل لمدة أربع ساعات، انتهت بخروج جنوده صاغرين، فصبيحة ذلك اليوم أرسل المحتل قبل ارتكابه المجزرة، ما يُسميها "قوة خاصة" لتمهد له طريق اقتحام المخيم العصي تاريخياً على الإرهاب الصهيوني، فكشف المقاومون أمرها وأعدوا كميناً لتلك القوة التي تخفت داخل ثلاجة خاصة لتوزيع الحليب، ليسقطوا جنوده المتسلّلين كالذباب ويوقعوا في صفوفهم إصابات بليغة، في أعقاب اقتحام الترسانة العسكرية للعدو جنين ومخيم صمودها ومحاصرته، ليقترف مجزرته التي تخلّلت إقدامه على القتل من المسافة صفر، واغتيال، وإعدام، وإطلاق الرصاص نحو الطواقم الطبية ومركبات الإسعاف، ومستشفى جنين الذي اقتحمه جند المحتل، وألقوا قنابل الغاز المسيّل للدموع صوب مرضاه وأطفاله، ولاحقوا بدباباتهم وجرافاتهم المركبات التي تقلّ المُصابين برصاص غدرهم.
في جنين تنقلب حتى معادلة الموت الذي يخطفه المقاومون بدلاً من أن يخطفهم هو، فتراهم يسعون إلى الشهادة بكلّ ما أوتوا من قوة
المصابون الذين ارتقى منهم تسعة شهداء حتى اللحظة، في حصيلة دم طاهر، بدأ عند المقاوم صائب زريقي وهو يمضي على درب الشهداء، في خضم تصدّي ثوار المخيم للعدو، ثم جاء الشهيد، عز الدين صلاحات الذي أمطرهم بطلقات بارودته العفيفة، والتي لا تزال تحتضنها أمه وتردّد "طلّت البارودة وعز الدين ما طل"، البارودة التي لم تخُنه في اشتباكه لآخر رمق مع العدو حتى أصابته رصاصة الغدر، كما أصابت رفيقه المقدام صائب، وأيضاً الشقيقين نور الدين ومحمد غنيم اللذين طاردا العدو حتى استشهدا بعد اشتباك بطولي خاضاه وشقيقهما الجريح ورفيقهما الشهيد المقاوم المطارِد محمد محمود صبح، بالتزامن مع ارتقاء المقاوم عبد اللّه الغول، الذي صدق فيما شدّد عليه بقوله "سنقاتل حتى الموت، إمّا أن نقابل حلمنا، أو نقابل ربنا" فصعد إلى الجنان برفقة الشهداء الأبطال وسيم الجعص، ومعتصم أبو الحسن، وماجدة أبو عبيد التي لاحقها قناص العدو إلى ردهة منزلها.
ورغم الدمار والدماء انتصرت المقاومة على المحتل الوضيع الذي خرج ذليلاً من أرض جنين وسمائها المحرّرة التي تنبذه وتُجلّ المقاومين، وتُعينهم على إسقاط طائراته المسيّرة وكيانه المهتز على وقع أزيز طلقات المقاومين المحتشدين لتشييع أقمارهم في جنين قبل أن يصلوا الجنان، وسط طلقات مباركة يُطلقها مقاوموها، إنذاراً بتسديد الثأر، الذي أشعل الضفة المحتلة وسدّد رمي أبطالها في صدور المحتل، كذلك وابل صواريخ غزة العزة التي دوّت في أرض عسقلان المحتلة، لتعلّم الجبان كيف يكون رد الشجعان.
بالتزامن مع استمرار جرائم المحتل في البلاد، وآخرها حتى اللحظة، مقتل الشهيد يوسف محيسن الذي هبّ لنصرة جنين، وخطّ قبل أن يترجل لمواجهة العدو في القدس المحتلة "يا غارة اللّه، وكأن كل نفس يدخل إلى صدورنا كالجمر، لك اللّه يا جنين"، فأراد أن يُطفئ الجمر بجنود العدو قبل أن يصعد شهيداً عاشراً إلى اللّه، وهنا ندعو الرب في السماء بأن يهبنا نحن لحظة إخماد الجمر المتقدة ناره في أفئدتنا برصاصات تخترق عدونا، أو سبات لا تتبعه يقظة على هذه الأرض، علّ الروح تنفك من عذاب العجز، وهي تتحرّر من الجسد، وتعبر الحدود لتقتص من هذا المحتل.