مستقبل سياسة ساعات العمل
خلال الفترة السابقة انخرط كثير من الأردنيين في نقاشاتٍ معمّقة بشأن الحدّ الأدنى للأجور، الذي انتهى هذا الشهر رغم تحفظات المستثمرين برفعه إلى 290 دينارًا أردنيًا (409 دولارات أميركية) في الشهر، وحيث إنّ القضية قد أُشبعت نقاشًا وَددْتُ التطرّق اليوم إلى موضوع آخر على هامش سياساتِ العمل، موضوع قديم حديث، ألا وهو عدد ساعات العمل الأسبوعية.
شخصيًا أمضيت معظم حياتي المهنية أعمل لمدّة ثماني ساعات على الأقل يوميًا، ولا أنكر أنني مررت بمراحل معينة عملت فيها بشكلٍ متواصل بمعدل 12 ساعة في اليوم، قبل أن أتحوّل أخيرًا للعمل الحر وأسيطر بشكل شبه تام على ساعات العمل التي أرغب فيها شخصيًا، ولكني ما زلت أتساءل: ألم يحن الوقت لإعادة التفكير في ساعات العمل المعيارية؟
نظام ساعات العمل الثماني يوميًا يعود لبدايات القرن التاسع عشر، عندما دعا رائد الاشتراكية الطوباوية، روبرت أوين، إلى نظام العمل لمدّة ثماني ساعات يوميًا، في ظلّ الثورة الصناعية، مطالبًا "بثماني ساعات من العمل، وثماني ساعات من الترفيه، وثماني ساعات من الراحة"، في محاولة لتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، في وقتٍ كانت فيه المصانع تعمل على مدار الساعة في بيئةٍ قاسيّةٍ وغير إنسانية تجاوزت ساعات العمل اليومي فيها (16) ساعة على مدار ستة أيّام أسبوعيًا. في حينها كانت هذه الفكرة ثورية، وسرعان ما أصبحت القاعدة الذهبية لساعات العمل في معظم أنحاء العالم. لكن، هل ما زال نظام العمل هذا صالحًا في عصر الثورة الرقمية؟ أم أنّ الوقت قد حان لإعادة النظر في تصوّراتنا ومفهومنا عن الإنتاجية والعمل؟
تشير الدراسات إلى أنّ الإنسان الطبيعي لا يستطيع الحفاظ على تركيزه وإنتاجيته بكفاءة عالية لأكثر من 4 إلى 6 ساعات يوميًا
لا يمكننا تجاهل الفروق بين عصر الثورة الصناعية وعصر الثورة الرقمية، ففي القرن التاسع عشر، كانت الإنتاجية تعتمد على الأيدي العاملة والآلات البدائية مقارنة بالروبوتات في أيّامنا هذه، وكان العمل يتطلّب الحضور الجسدي لفتراتٍ طويلة. أمّا اليوم، فقد أصبحت التكنولوجيا أداة أساسية، وغالبًا ما يكون التركيز والإبداع هما العنصرين الأكثر أهمية في العديد من الوظائف. آخذين بالاعتبار أنّ كثيرًا من الدراسات تشير إلى أنّ الإنسان الطبيعي لا يستطيع الحفاظ على تركيزه وإنتاجيته بكفاءة عالية لأكثر من 4 إلى 6 ساعات يوميًا، وما يحدث خلال بقية الساعات لا يعدو كونه إضاعة للوقت ما بين تصفّح الإنترنت ومتابعة الأخبار ودردشة نميمة وإشاعات مع الزملاء، واحتساء للقهوة في أثناء التدخين وإجراء المكالمات الشخصية، في ظلّ نظام يقلّل فعليًا من جودة العمل وكفاءته، بل يؤدي أحيانًا إلى الأخطاء أو الإحباط. وعلى الرغم من كلّ ذلك، ما زلنا متمسكين بنظام عمل صُمّم لمصانع القرن التاسع عشر وليس للمشاريع الريادية والعقول المبتكرة، ولحكومات إلكترونية، أو على الأقل تدّعي ذلك.
إذا قام عصر الثورة الصناعية على الآلات واستغلال القوى العاملة، فإنّ عصر الإقطاع الرقمي يقوم على البيانات والمنصّات التكنولوجية واستغلال شركات التقنية العملاقة لنا جميعًا. فنحن اليوم نعمل في بيئةٍ مختلفة تمامًا، حيث أصبحت الإنترنت شريان الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتواصل والعمل الافتراضي هو القاعدة. في هذه البيئة الجديدة، يبدو التمسّك بنظام الثماني ساعات كأنه تناقض مع طبيعة العصر. ففي عصر بات يمكننا فيه العمل من المنزل، والوصول إلى المهام عبر الأجهزة المحمولة، وتحليل البيانات في الوقت الفعلي، لماذا نواصل قياس الإنتاجية بعدد الساعات بدلاً من جودة النتائج؟ لماذا نعتقد أنّ الحضور الطويل يعني العمل الجاد، بينما تشير الأدلة إلى أنّ العمل الأقصر، ولكن الأكثر تركيزًا، يمكن أن يكون أكثر إنتاجية؟
ما زلنا متمسكين بنظام عمل صُمّم لمصانع القرن التاسع عشر وليس للمشاريع الريادية والعقول المبتكرة
ومع أنّ الدعوات إلى تقليص ساعات العمل ليست جديدة، العديد من الدول تختبر أو اختبرت نماذج العمل لمدّة أربعة أيام في الأسبوع، أو العمل لستّ أو سبع ساعات يوميًا، وغيرها من النماذج التي أظهرت نتائج إيجابية، من ناحية زيادة الإنتاجية، وتحسّن الصحة النفسية للعاملين، وانخفاض مستويات الإجهاد. وكثير من الشركات التي تبنّت مثل هذا النظام أشارت إلى أنّ الأداء لم يتراجع، بل على العكس، كسبت ولاء موظفيها ورفاهيتهم إلى جانب تحسّن الأداء.
من الواضح أن مستقبل العمل يتطلّب مزيدًا من المرونة بدلاً من إلزام الجميع بالعدد نفسه للساعات يوميًا، ويتطلّب التفكير في نماذج تُصمّم بالاعتماد على طبيعة الوظيفة والنتائج المرجوة، فالوظائف التي تتطلّب الإبداع والابتكار أو التحليل قد لا تتطلّب نظام ساعات العمل المحدّدة والطويلة، بينما تبقى الوظائف التي تعتمد على الخدمة المستمرة ضمن إطار زمني محدّد وأطول، ولكن مع تعويضاتٍ عادلة.
إعادة التفكير في عدد ساعات العمل ليست مسألة جدولة فحسب، أو إصدار نظام عمل مرن هنا، أو تعليمات هناك، بل هي أيضًا فرصة لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والعمل. كيف يمكننا خلق بيئة عمل تعزّز من إبداع الأفراد وإنتاجيتهم، بينما تحافظ على صحتهم النفسية، وتزيد من رفاه الانسان بعيدًا عن تغوّل رأس المال والسلطة؟ كيف يمكننا تصميم وظائف تتماشى مع احتياجات المجتمع الرقمي بدلاً من مواصلة قياسها بمقاييس القرن التاسع عشر؟ نحن بحاجة إلى سياسات عمل تعكس واقعنا الجديد. وبينما نودّع عصر الإقطاع التاريخي وندخل عصر الإقطاع الرقمي بجميع تحدياته الناشئة لحقوق الانسان، فنحن بحاجة لأن تكون ساعات العمل جزءًا من النقاش الأكبر حول العدالة الاجتماعية، والإنتاجية، والرفاهية، فقد حان الوقت لتغيير القواعد، ليس بالضرورة لأنها خاطئة، بل لأنها بكلِّ بساطة لم تعد ذات صلة.