عقل المستبد... زنازين العظمة والخوف
سقط مستبدٌ آخر ونقص القتلة واحدًا، ولكن كان الثمن باهظًا جدًا. ويبدو أنّ الحرية لا تأتي أبدًا مجانًا. لماذا لم يكتفوا بما نهبوه ورحلوا؟ لماذا أصرّوا على تعذيب شعبٍ كامل من الضحايا حتى آخر رمق؟ ماذا لو أطلقت لمخيّلتي العنان لتلج إلى عقل ذاك الديكتاتور المستبد ومشاعره؟ هل بإمكاني تصوّر الخليط المُعقّد والمتضارب من الأحاسيس والأفكار التي تملئ ذلك العقل المظلم؟ لست أدري؟ ولكن ماذا لو تمكنت من ذلك؟
أظنّ أنّ أولى الزنازين التي سألجها داخل ذلك الكهف المظلم البارد ستكون زنزانة "الهبة الإلهية"، فالمستنسخون من فصيلة ظلّ الله في الأرض ووكلاؤه الحصريون على مرّ التاريخ، غالبًا ما أقنعوا أنفسهم لدرجة الإيمان بأنّ المستبد هو "هبة الله" لشعبه، محاولًا إقناع نفسه قبل الآخرين بأنه المُخَلّص الوحيد القادر على قيادة الأمة إلى برّ الأمان وسواحل الاستقرار والازدهار. هذا الشعور الذي يتضخّم بفضل المنافقين والمقرّبين الذين يغذّون غروره، ومع الوقت تمتدّ العدوى ليشكّلوا معًا عقلًا جمعيًا، تعتقد فيه بطانة السوء أنّها امتداد لظلّ الله في الأرض، وفقًا لمبدأ "كلب الشيخ شيخ"، واضعين المستبد وأنفسهم فوق الشعب، متعالين على رغباتهم ومطالبهم، تحت مظلّة سرديتهم المصطنعة التي يستبسلون في تسويقها بأنّ الشعب لا يدرك الصورة الأشمل ولا يفهم المصلحة الكبرى التي لا يراها سوى ظلّ الله في الأرض.
على الحائط الأيمن في زنزانة "الهبة الإلهية"، لربما أجد بابًا لزنزانة "الرعب"، فعلى الرغم من شعور العظمة والقوّة الزائف الذي يحاول المستبد إقناع نفسه به، فلا بُدّ أنه يعيش في خوفٍ دائم. وعلى الرغم من تملّق المنافقين والمتسلّقين والمرتزقة وتمسّحهم بأعتاب المستبد، فمن الصعب الثقة بمثل هؤلاء، هو أصلًا لا يثق حتى بنفسه، لأنه إذا امتلك ذكاء طفل في العاشرة من عمره سيعلم علم اليقين أنّ النظام الذي بنى سلطته عليه أوهن من بيت العنكبوت، وأنّ القوّة التي يبطش بها بخصومه ومنتقديه والمطالبين بالإصلاح من أجل البقاء يمكن أن تنقلب عليه في رمشة عين. لربما هذا الخوف الدائم هو ما يدفعه باستمرار لمضاعفة بطشه وإحكام قبضته أكثر، وخنق البلاد والعباد حدّ الموت أو الانفجار، ومع ذلك فهو لن يشعر بالأمان مطلقًا مهما علت أسوار قلاعه وازدادت مراكبه تصفيحًا.
يعيش المستبد داخل دوامة من التناقضات، دوامة تتلاطم فيها مشاعر العظمة والقوّة الزائفة مع الخوف الدائم
ولربما عن طريق الصدفة دَلَفْتُ إلى زنزانة "مطل الرعاع"، هي الزنزانة التي يشرف منها عقل المستبد المريض على الشعب الذي استعبده. لربما كان لدى المستبد مشاعر مختلطة تجاه الشعب في البدايات. من جهةٍ، هو ما زال يحتقرهم ويرى فيهم كتلة من الجهلة غير القادرين على إدارةِ شؤونهم على الرغم من جميع المظاهر الاستعراضية الاحتفالية التي يحاول فيها الاحتفاء بهم وإظهار الحبّ اتجاههم في كليشيهاتٍ تسويقيّةٍ باتت رخيصة ومبتذلة وغبيّة في عصرنا الحالي. ومن جهةٍ أخرى، يستمر بالشعور بالرهبة من كراهيتهم له، التي يدرك أنّها تتزايد ظلمًا بعد ظلم. هذا الكره المتبادل والمتنامي يزيد من برودة زوايا هذه الزنزانة ويعزّز شعوره بالقشعريرة والخوف والعزلة.
أسرع لمغادرة تلك الزنزانة لأجد نفسي واقفًا في "ممرّ التبرير"، فالمستبد غالبًا ما سيحاول إقناع نفسه بأن كل ما يفعله مبرّر، سواء كان قمعًا أو بطشًا أو نهبًا لأحلام الناس قبل ممتلكاتهم. فهو يحاول التبرير لنفسه بأنّ القسوة ضرورة لضمان "الاستقرار والأمان"، أو أنّ الشعب النمرود بحاجة إلى "يد حديدية" لتجنّب الفوضى، فالحرية لا تليق بهؤلاء الرعاع الذين ابتلى الله المستبد بهم وفق تصوّره المريض. لربما تمنحه هذه التبريرات نوعًا من السلام الزائف مع نفسه، ولو بشكلٍ مؤقت.
في نهاية الممر قد أجد زنزانة "السيطرة"، هذه الزنزانة لا يبدو أنّها كانت ضمن المخطّط الأصلي لهذا الكهف المظلم، ولكن يبدو أنّ المستبد استحدثها لاحقًا في عقله المريض عندما لم تعد السيطرة مجرّد وسيلة للبقاء بالنسبة له، بل أصبحت غاية بحدّ ذاتها. عند استحداث هذه الزنزانة أظن أنّ المستبد فقد القدرة على الفصل بين شخصيّته كفرد ودوره كحاكم، واختلط عليه الأمر حتى ألّه نفسه قبل تأليه المنافقين له، ممّا جعله أسيرًا أبديًا لمنظومة القمع التي شيّدها بنفسه.
يعيش جميع المستبدين على اختلاف مشاربهم ونكهاتهم أسرى لسلطتهم المصطنعة أكثر من كونهم أسيادًا عليها
أهنالك فتحة صغيرة في طرف الزنزانة يتسلّل منها شعاع من الضوء؟ على الرغم من القمع والبطش، يبدو أنّ لدى هذا المستبد الجبان رغبة دفينة في الحبّ والاعتراف من الشعب الذي اضطهده، لا أعلم ما هذه العقدة؟ ولكن هذا الميكافيلي يعلم علم اليقين أنّ الخوف والكراهية هما فقط ما يضمنان له السيطرة والبقاء، وليس الاحترام أو الإعجاب والحب. هذا التناقض يزيد من قلقه الداخلي فيُسارع لإغلاق تلك الفتحة مرّةً واحدةً وللأبد.
أركض إلى الأمام فأجد نفسي حيث بدأت. فعلى ما يبدو أنّ هذا المستبد عالق في دوامة من التناقضات، دوامة تتلاطم فيها مشاعر العظمة والقوّة الزائفة مع الخوف الدائم، ويختلط فيها احتقاره للآخرين مع الحاجة للتقدير والحب، استقرار ظاهري واضطراب داخلي عميق، ففي النهاية يعيش جميع المستبدين على اختلاف مشاربهم ونكهاتهم أسرى لسلطتهم المصطنعة أكثر من كونهم أسيادًا عليها. وعلى الرغم من أنّ نهاية المستبدين جميعًا معروفة فغالبًا ما يُظهر التاريخ أنّ المستبدين لا يتعظون بسهولة. فمن طبيعة هندسة زنازين أدمغتهم المريضة أن تُريهم أنفسهم مختلفين عن الآخرين، دافعةً إياهم للاعتقاد واهمين بأنهم أذكى أو أقوى من أولئك الذين سبقوهم. حتى عندما يرون استبدادًا ينهار، قد يُفسّرونه بأنه خطأ في التكتيك أو الظروف وليس إدانة جوهرية للاستبداد نفسه، فهذه النهاية مستحيل أن تصيب ظلّ الله في الأرض. لذا تراهم، وببساطة، يغلقون باب زنزانة "الهبة الإلهية" ويلقون بأنفسهم في دوامة كهفهم المظلم مؤجّلين لحظة الحرية وسقوطهم إلى حين.