25 ديسمبر 2023
"مرآة الخاسر": في تقويض العالم التخييلي الأول
تتنازع آخر روايات الكاتب التونسي شكري المبخوت؛ "مرآة الخاسر"، فرضيّتان: أن تكون جزءاً ثانياً من رواية "الطلياني" أو هي عمل مستقل بذاته..
هناك ما يدعم كل فرضية، في النصّ وخارجه، فنحن من جهة أمام استعادة لعدد من الشخصيات التي ظهرت في عمَليه الروائيين السابقين؛ "الطلياني" (2014) و"باغندا" (2016)، وخصوصاً الشخصية الرئيسية، عبد الناصر العسلي، لكننا في الوقت نفسه نجد أنفسنا حيال بناء جديد لهذه الشخصية بالذات، وتلك بعض تلاعبات المؤلف بعناصر عالمه التخييلي الذي بات، وهو في رميته/ روايته الثالثة أشبه بجغرافيا مدينة متشعبة يجد القارئ نفسه في كل مرة وقد اقتيد إلى شارع فرعي جديد بمشهدية لا هي تكرّر كل ما نعرفه من عناصرها القديمة، ولا أنها تقطع معها كلياً فتأتي بـ"خلق جديد". ألم تكن حكاية باغندا، التي تحوّلت إلى رواية مستقلة، سوى إشارة من نصف سطر في رواية "الطلياني"؟ ثم ها أن كل شيء يوحي بأن القارئ سيستكمل حكاية عبد الناصر من حيث ترَكه آخر مرة، لكن في تلك المسالك السردية التي تبدو ممهّدة كان المؤلف قد دسّ الشيء الكثير من المفاجآت واضعاً لبنات عالم تخييلي متجدّد.
كانت عتبة العنوان الفرعي في "مرآة الخاسر" (خيبة عبد الناصر الثانية) تقود القارئ إلى التسليم بأنه يستكمل نصاً قديماً. استسلامٌ لعلّه ضروري لتهيئة الطريق لانتباهات قادمة، وها أن جملة الاستهلال تبدأ في خلخلة تلك القناعة برفق. يقول الراوي: "لم يتغيّر عبد الناصر كثيراً في مظهره ولكن أمارات الثراء المادي بدأت تظهر عليه".
كان ذلك الاستدراك بـ لكن إشارة خفيفة لا تكاد تُظهر شيئاً من عاصفة التحوّلات التي ستضرب مسلمات القارئ القادم من "الطلياني"، فلم تكن أمارات الثراء المادي هي المتغيّر الوحيد في الشخصية الرئيسية حيث أن المبخوت سيهيّئ لها من ظروف التحوّل الكثير كما سيوفّر للقارئ زوايا متعددة لملامسة تقلباته، كما أن الفترة التاريخية الجديدة التي يتناولها (مفترق نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي) اقتضت هذا التغيير المتسارع، بين سياقات اكتمال قبضة نظام بن علي على مصائر البلاد وامتدادات العولمة إلى الأطراف، وهي سياقات تفرض أن تتخلّى شخصية الطلياني عن كثير من مكوّناتها القديمة كي تواصل رحلتها.
وعلى الرغم من أن شكري المبخوت قد اختار أن يستدعي نفس الراوي الذي اعتمده في روايته الأولى، إلا أنه يكسر -على عكس "الطلياني"- احتكار ذلك الراوي (وهو هنا شخصية تأخذ حيّزاً هاماً) لسرد وقائع من حياة الشخصية الرئيسية حين يُقحم داخل صوته طبقات عدة، منها صوت عبد الناصر، وخصوصاً صوت زليخة زوجته أو خسارته الثانية (لعلّها من ناحية الحضور الشخصية الرئيسية للرواية الجديدة)، لتقترح "مرآة الخاسر" بذلك صراعاً بين قراءات عدة لمسار الطلياني في عملية أشبه بإعادة تركيب "صورة مهشّمة".
قراءات تتضارب فتُفكّك كل ما ترسّخ عن الشخصية الرئيسية، حتى أنها تعيد حسابات القارئ في ما يتعلّق بعبد الناصر من منظومة قيمه وسلوكياته وقناعاته الأيديولوجية وصولاً إلى نسبه، وكأن المبخوت قد اختار الذهاب إلى أقصى حد في تقويض كل ما يمكن أن يكون ثابتاً في عالمه التخييلي. ومن هذه الزاوية، فإن "مرآة الخاسر" -على المستوى البنيوي- كانت أقرب إلى "باغندا" منها إلى "الطلياني" حيث أقيم معمارها على هيكل من الروايات المتضاربة التي لا نخرج منها بيقين، وها أن الراوي يقرّ -وكأنه يتحدّث بلسان كل متلق- بأنه لا فائدة في معرفة الصادق من الكاذب.
مع التلوينات الجديدة، وكأن "مرآة الخاسر" كانت تحاول تحرير شخصية الطلياني من أكثر طرق تمثّلها تداولاً (سيرة جيل من المثقفين، محكمة اليسار...)، إنها ذهاب نحو فكّ حصار شبكة القراءة الأولى التي تكرّست مع نجاحات "الطلياني" على مستوى الجمهور والجوائز الأدبية. بشكل من الأشكال، ربما تبدو هذه النزعة التقويضية لشخصية الطلياني ورقة في يد المبخوت لعبها لاجتراح طريق أدبي لعالمه التخييلي بعيداً عن إسقاطات كثيرة من خارج النص باتت تشكّل إعاقة حيال تلقّي بقيّة أعماله. حين ارتطم عبد الناصر بخيبات مهنية وعاطفية جديدة، "عاد إلى تحاليله القديمة وإن ظل يضحك منها لأنها لم تعد تحيط بما رأى وشاهد وعاش" بحسب عبارات الراوي. أفلا يجدر بالقارئ أن يقتدي بهذه النزعة الساخرة من المعتقدات الأولى وهو يحاول فهمه، فأي فائدة لشبكة القراءة، مهما كانت متانة فرضياتها، حين تتسارع التحوّلات، تحوّلات العالم التخييلي أو تحوّلات الواقع نفسه؟
هناك ما يدعم كل فرضية، في النصّ وخارجه، فنحن من جهة أمام استعادة لعدد من الشخصيات التي ظهرت في عمَليه الروائيين السابقين؛ "الطلياني" (2014) و"باغندا" (2016)، وخصوصاً الشخصية الرئيسية، عبد الناصر العسلي، لكننا في الوقت نفسه نجد أنفسنا حيال بناء جديد لهذه الشخصية بالذات، وتلك بعض تلاعبات المؤلف بعناصر عالمه التخييلي الذي بات، وهو في رميته/ روايته الثالثة أشبه بجغرافيا مدينة متشعبة يجد القارئ نفسه في كل مرة وقد اقتيد إلى شارع فرعي جديد بمشهدية لا هي تكرّر كل ما نعرفه من عناصرها القديمة، ولا أنها تقطع معها كلياً فتأتي بـ"خلق جديد". ألم تكن حكاية باغندا، التي تحوّلت إلى رواية مستقلة، سوى إشارة من نصف سطر في رواية "الطلياني"؟ ثم ها أن كل شيء يوحي بأن القارئ سيستكمل حكاية عبد الناصر من حيث ترَكه آخر مرة، لكن في تلك المسالك السردية التي تبدو ممهّدة كان المؤلف قد دسّ الشيء الكثير من المفاجآت واضعاً لبنات عالم تخييلي متجدّد.
كانت عتبة العنوان الفرعي في "مرآة الخاسر" (خيبة عبد الناصر الثانية) تقود القارئ إلى التسليم بأنه يستكمل نصاً قديماً. استسلامٌ لعلّه ضروري لتهيئة الطريق لانتباهات قادمة، وها أن جملة الاستهلال تبدأ في خلخلة تلك القناعة برفق. يقول الراوي: "لم يتغيّر عبد الناصر كثيراً في مظهره ولكن أمارات الثراء المادي بدأت تظهر عليه".
كان ذلك الاستدراك بـ لكن إشارة خفيفة لا تكاد تُظهر شيئاً من عاصفة التحوّلات التي ستضرب مسلمات القارئ القادم من "الطلياني"، فلم تكن أمارات الثراء المادي هي المتغيّر الوحيد في الشخصية الرئيسية حيث أن المبخوت سيهيّئ لها من ظروف التحوّل الكثير كما سيوفّر للقارئ زوايا متعددة لملامسة تقلباته، كما أن الفترة التاريخية الجديدة التي يتناولها (مفترق نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي) اقتضت هذا التغيير المتسارع، بين سياقات اكتمال قبضة نظام بن علي على مصائر البلاد وامتدادات العولمة إلى الأطراف، وهي سياقات تفرض أن تتخلّى شخصية الطلياني عن كثير من مكوّناتها القديمة كي تواصل رحلتها.
وعلى الرغم من أن شكري المبخوت قد اختار أن يستدعي نفس الراوي الذي اعتمده في روايته الأولى، إلا أنه يكسر -على عكس "الطلياني"- احتكار ذلك الراوي (وهو هنا شخصية تأخذ حيّزاً هاماً) لسرد وقائع من حياة الشخصية الرئيسية حين يُقحم داخل صوته طبقات عدة، منها صوت عبد الناصر، وخصوصاً صوت زليخة زوجته أو خسارته الثانية (لعلّها من ناحية الحضور الشخصية الرئيسية للرواية الجديدة)، لتقترح "مرآة الخاسر" بذلك صراعاً بين قراءات عدة لمسار الطلياني في عملية أشبه بإعادة تركيب "صورة مهشّمة".
قراءات تتضارب فتُفكّك كل ما ترسّخ عن الشخصية الرئيسية، حتى أنها تعيد حسابات القارئ في ما يتعلّق بعبد الناصر من منظومة قيمه وسلوكياته وقناعاته الأيديولوجية وصولاً إلى نسبه، وكأن المبخوت قد اختار الذهاب إلى أقصى حد في تقويض كل ما يمكن أن يكون ثابتاً في عالمه التخييلي. ومن هذه الزاوية، فإن "مرآة الخاسر" -على المستوى البنيوي- كانت أقرب إلى "باغندا" منها إلى "الطلياني" حيث أقيم معمارها على هيكل من الروايات المتضاربة التي لا نخرج منها بيقين، وها أن الراوي يقرّ -وكأنه يتحدّث بلسان كل متلق- بأنه لا فائدة في معرفة الصادق من الكاذب.
مع التلوينات الجديدة، وكأن "مرآة الخاسر" كانت تحاول تحرير شخصية الطلياني من أكثر طرق تمثّلها تداولاً (سيرة جيل من المثقفين، محكمة اليسار...)، إنها ذهاب نحو فكّ حصار شبكة القراءة الأولى التي تكرّست مع نجاحات "الطلياني" على مستوى الجمهور والجوائز الأدبية. بشكل من الأشكال، ربما تبدو هذه النزعة التقويضية لشخصية الطلياني ورقة في يد المبخوت لعبها لاجتراح طريق أدبي لعالمه التخييلي بعيداً عن إسقاطات كثيرة من خارج النص باتت تشكّل إعاقة حيال تلقّي بقيّة أعماله. حين ارتطم عبد الناصر بخيبات مهنية وعاطفية جديدة، "عاد إلى تحاليله القديمة وإن ظل يضحك منها لأنها لم تعد تحيط بما رأى وشاهد وعاش" بحسب عبارات الراوي. أفلا يجدر بالقارئ أن يقتدي بهذه النزعة الساخرة من المعتقدات الأولى وهو يحاول فهمه، فأي فائدة لشبكة القراءة، مهما كانت متانة فرضياتها، حين تتسارع التحوّلات، تحوّلات العالم التخييلي أو تحوّلات الواقع نفسه؟