نُزهة الغروب (6): في ما مُحيَ من الأعياد وما يبقى
لا يكاد يمرّ عيدُ فطرٍ إلا ويُستحضر بيت المتنبي في مطلع داليته: "عيدٌ بأية حال عدتَ يا عيد - بما مضى أم لأمر فيك تجديد". كان الشاعر يتحدّث عن محنة شخصية، وهو يرتحل (ليلة عيد أضحى) من مصر فاراً من بطش كافور الإخشيدي بعد أن هجاه، ثمّ تحوّل ذلك التفصيل في سيرة المتنبي إلى تعبيرة جماعية، أشبه بزفرة تُنفّس بها الأمّة عمّا اعتراها، وها هي الأعياد تترافق اليوم (إذا حصرنا الأمر في ما هو شأن عربيّ عام في عيدنا هذا) مع اعتداءات متكرّرة على الأقصى ومن يؤمّونه، وبوادر حرب أهلية في السودان.
صحيح أنّ العيد يأتي بأفراحٍ وتلوينٍ وتزيين، ولكن يصحبه شعور لا يبرح من خيبة الأمل، واستحضار لما ولىّ وما انطفأ، وانتظار لشيء ما يظهر في الأفق، لا ندري إن كان يظهر. وما العيد إلا نوع من الإقناع النفسي (لا يهم إن كان وهمياً أو قائماً على منطق ما) بأنّ ضوءاً ما لا بدّ أن يظهر في نهاية كل نفق.
وحدهم الأطفال ينجحون في ترجيح كفة الوجه الزاهي للعيد على حساب ما يعتمل في نفوس الكبار من أتراح وهزائم، مما يصنعه الواقع أو "الوعي الشقي" بالواقع، إذ تكفي فرحة الأطفال المعلنة كي تمسح جانباً غير هيّن من أحزان الكبار المضمرة، بل إنّ هؤلاء يجتهدون في إخفاء ما هم عليه، حماية لجذوة الغبطة في أعين الصغار، وعلى هذا الميكانيزم يستطيع العيد أن يحافظ، كلّ عام، على بعضٍ من رونقه، وبذلك يُتاح له أن يلعب دوره الذي ربما من أجله بُعثت الأعياد (كمؤسسة اجتماعية أو كطقس ديني) منذ الأزل.
وحدهم الأطفال ينجحون في ترجيح كفة الوجه الزاهي للعيد على حساب ما يعتمل في نفوس الكبار من أتراح وهزائم
لكن العيد لا يقوم فقط على هذه العلاقة الحمائية ما بين كبار وصغار، فهو منظومة رمزية تجمع بين علامات متراكبة، بعضها متباعد في سائر الأيام لا يلتقي إلا يوم العيد، فمنها ما هو روحاني اعتقادي صرف، مثل صلاة العيد صُبحاً، ومنها ما هو محسوس ملموس، كتبادل الحلويات وإهداء اللعب والتباهي بالثياب، وما إلى ذلك مما يندرج ضمن زينة الحياة الدنيا.
فأما الوجه الأول، فقد ضمُر مع موجة الرأسمالية الاستهلاكية التي غمرت الكوكب، ولم تكن البلاد العربية استثناء رغم ما عاشته من مقاومة تمتد لعقود باسم التمسّك بالهوية، يبدو أنّ لها نتائج عكسية في أكثر من مجتمع. وأما الوجه الثاني فقد خنقته الصعوبات الاقتصادية التي يعيشها الجزء الأكبر من سكّان هذه البقعة من الأرض، حتى أنّ إسعاد طفل بات لكثيرين مشقةً تحتاج إلى تضحية بضروريات أخرى، وهو ما يحوّل العفوي العاطفي المرح في العيد إلى واجب وعادة، ومن هنا يبدأ في إهدار جزء غير يسير من الرصيد المعنوي للعيد.
كانت هذه المساحة (المحسوسة) من العيد عامرة بأشكال كثيرة من طيّب الطعام وأحسن الثياب قبل أن تتراكم الظروف مثل غيوم في السماء فتحجب الكثير من أنوار الأعياد في مجتمعاتنا. تلك الفسح المتبقية في يوميات السنة التي يبدو معظمها لا يتحرّك إلا على إيقاعٍ من سرديات الكسل والفساد والإهمال والتدمير المعنوي والمادي. العيد على ذلك شاهدٌ، وهو ينتقل من صورة هو فيها لمّاعٌ وضّاء كبيت مزيّن بأجمل الأثاث، غير أنّ هذا الأثاث لا يفتأ يتضاءل. وأي صورة أحزن من بيتٍ يفقد أثاثه؟
على ماذا تقتات الأعياد كي تعيش إذا فقدت إيمان الإنسان بها؟ إيمانه بأنها تمنحه إشراقات حيث تبدو السماء شاحبة والأفق ضئيلاً
قد يطمئننا اليوم ذلك الحرص الاجتماعي الذي نراه ثابتاً في الحفاظ على حدّ أدنى من أشكال الاحتفال بالعيد. وفي الحقيقة، وحده ذلك الحرص على ما في العيد من مسرّات سيُجدّد الدماء في معنى العيد. بعبارة أخرى، تحتاج هذه المساحات إلى رعاية مستمرة وإلا اندثرت.
أذكر في هذا السياق كتاباً بعنوان "الأعياد الشعبية التونسية" لمحجوب السميراني، يعُدّ فيه مجموعة من الأعياد التي اندثر معظمها على ما كانت عليه من أبهة، مثل أوسّو (عيد يشترك فيه سكان المتوسط في أزمنة سابقة)، وأعياد المواسم الفلاحية التي اغتالها الانقلاب الديمغرافي بين الأرياف والمدن خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
ليست أعياد الإسلام، خصوصاً منها عيد الفطر وعيد الأضحى والمولد النبوي، مما يُخشى عليه اليوم من الاندثار الذي طاول أعياداً كثيرة لأسباب سياسية وعقائدية واجتماعية ونفسية، فقد نجحت هذه الأعياد في مقاومة أسباب اجتثاث كثيرة، منها المرحلة الاستعمارية وتعسّف الأنظمة وفرض رزنامة أعياد جديدة، ولم يبق لها إلا أن (تظل) تتغلّب على الإكراهات الاقتصادية، وخصوصاً على فقدان المعنى، ففي النهاية، على ماذا تقتات الأعياد كي تعيش إذا فقدت إيمان الإنسان بها؟ إيمانه بأنها تمنحه إشراقات حيث تبدو السماء شاحبة والأفق ضئيلاً.