محطات في الثورة (٥)... في المخابرات الجوية (٢)
أسامة أبو زيد
على الرغم من حالة الهلع التي تصيب المعتقل في ساعات اعتقاله الأولى والتي تنتج من تسارع ضربات قلبه وتصادم سيالاته العصبية، كنتيجة طبيعية للموقف المعقد المتمثل بحالة الألم الناجم عن الضرب العنيف الذي يتلقاه عند استقباله من عناصر المخابرات، والمجهود المضاعف الذي يبدأ الدماغ ببذله في محاولة استيعاب الصدمة النفسية ومحاولة فهم المكان والمحيط وطبيعة الأشخاص المتناوبين على نهش جسده والأمواج العاطفية التي تبدأ بالتلاطم داخل قلب المعتقل بين خشية من القادم وشوق إلى الحرية، على الرغم من كل ذلك، إلا أن حاسة السمع لدى المعتقل تتطور بنحو لافت، وبمجرد أن يحكم السجانون وضع تلك القطعة القماشية القاسية (الطرميشة) على عيون المعتقل، تصبح أذناه وخياله الأداة التي يحاول بها تلمس ما يدور حوله، وبالفعل بدأت اشعر بأني قادر على سماع تهامس العناصر عندما بدأوا بشحطي من مكتب ذلك الضابط المحقق، واستطعت سماعهم يتهامسون عن سيادة العقيد الذي كنا في مكتبه ثم همس أحدهم للآخر يسأل زميله عني، فأجابه بالقول: هذا من المحرضين على سيادة الرئيس!
على إثر بوح العنصر لزميله عن طبيعة الجرم الذي اعتقلتُ على خلفيته، خضعتُ لحفلة تعذيبٍ أخرى بعد أن ربطوا أطرافي الأربعة بسريرين حديديين، لتستمر تلك الحفلة حتى أنهك جميع من شارك بها وغبت عن الوعي مرتين، ما اضطرهم إلى إيقاظي مرة بعصا الكهرباء والأخرى بسطل من الماء، لأنقل بعدها إلى فرع التحقيق في المخابرات الجوية.
وحرصاً منهم على عدم مخالطتي لأيٍّ من المعتقلين الآخرين، الذين كان معظمهم قد اعتُقِلوا قبل الثورة على خلفية قضايا لا علاقة لها بمعارضة النظام مثل حسن مخلوف مدير الجمارك الذي اعتقل في2009، خصص لي مدير السجن مكاناً في ممر السجن المؤدي إلى المراحيض، كنت أجلس بالقرب من المراحيض على الأرض مكبلاً إلى الخلف ومطرمشاً ( الطرميشة قطعة قماش قاسية تُربَط على عيون المعتقل بإحكام، فتستحيل عليه الرؤية كلياً)، قضيت الليلة الأولى لا أفكر بشيء سوى أمي وأبي وخطيبتي آية، لا أدري لماذا كنت عاجزاً عن التفكير في أحد سواهم، كان يقتلني التفكير في مشاعرهم، وكان يقتلني أكثر التفكير في كيفية قضائهم تلك الليلة وحجم القلق الذي يعتريهم عن مصيري ومكان اعتقالي.
قضيت الليلة الأولى لا أفكر بشيء سوى أمي و أبي وخطيبتي آية، لا أدري لماذا كنت عاجزا عن التفكير بأحد سواهم، كان يقتلني التفكير بمشاعرهم وكان يقتلني أكثر التفكير في كيفية قضاءهم تلك الليلة وحجم القلق الذي يعتريهم عن مصيري ومكان اعتقالي.
في تلك الليلة باغتتني أحب صور أبي لي حين كان ضابطاً في الفرقة السابعة قائداً لكتيبة المشاة، في الصورة التي التقطت لوالدي في مقابلة له مع مجلة جيش الشعب التابعة للإعلام الحربي للقوات المسلحة السورية في صيف 1976، خلال زيارة ميدانية للمجلة، لخط الجبهة مع فلسطين المحتلة في القطاع الشمالي، في تلك الصورة يجلس أبي خلف مكتبه بيده سيجارة من علبة سجائر الشرق فخر الصناعة السورية حينذاك، وعلى كتفيه رتبة الرائد، وعلى يمينه بندقية الكلاشينكوف التي حارب بها إسرائيل في تشرين وفي حرب الاستنزاف.
كنت أشعر بهيبته في تلك الصورة أكثر من أي صورة أخرى، وكثيراً ما تسللت إلى غرفته لأبحث بين صوره بالزي العسكري، أو لألهو بالسيف الدمشقي الذي كُرِّم والدي به بعد حرب تشرين وقبل أن يقدم حافظ الأسد على تسريحه تعسفاً، هو ومئات الضباط الآخرين ممن لم يبخلوا على البلاد وقضية أهلها بالدم أو بالشجاعة، على خلفية تطهير الجيش من السُّنة بعد مجزرة حماة وجسر الشغور.
في ممر المخابرات الجوية كنت أتخيل صورة والدي تتكلم، صرت أتذكر دمعاته التي ذرفها حزناً على سنواته في الجيش والحروب التي خاضها، وكيف تبددت الأحلام التي كان قد بناها حين تطوع في الكلية الحربية قبل النكسة، قبل أن يحول حافظ الأسد جيش سورية أداة في خدمة نظامه ومشروعه الاستبدادي، تخيلت والدي يعاتبني على عدم احترازي، وتذكرت كل مرة قال لي فيها: يا ابني، انتبه. أنا أحْمَدُ رب العالمين كل يوم أني نجوت من الاعتقال. يا ابني لا تلوِّع قلبي، انتبه. كذلك صوت أمي وعتاب آية التي كانت لا تخفي خشيتها عليّ من الاعتقال بعد أن ظهرت صورتي في مظاهرة داريا الأولى على عدة قنوات فضائية.
صارت تلك الصور تثقل كاهلي أكثر، حتى صرت أحاول الهروب منها بمحاولة إشغال عقلي بالتفكير في شيء آخر!
حتى باغتتني صرخة ألم لأحد المعتقلين الذين قد حان موعد جلسة تعذيبهم، وبعد أن توقف الجلادون لبرهة عن ضربه، وصرت قادراً على سماع صوت أنينه دون تشويش من شتائم جلاديه وصوت أدوات التعذيب، سمعته يقول: أنا مو إرهابي! لقد كان صديقي معتز مراد الذي كان قد اعتُقل قبلي بيوم أو يومين. في الحقيقة، لقد استطاع صوت معتز أن يهرب بي من التفكير في صور أهلي وعتابهم، لكنه هرب بي إلى ما هو أجدر بالهروب منه، ألا وهو التفكير في مصير الأصدقاء المعتقلين الذين كان من بينهم معتز، وعن شكل التعذيب الذي سأتعرض له ومدى قدرتي على تحمّله.