محطات في الثورة... في المخابرات الجوية (3)

22 ديسمبر 2020
+ الخط -

يدخل المعتقل في سجون النظام السوري في حالة صراع عنيف مع الزمن، ويكون المُعتقل في هذا الصراع كما الملاكم المتراجع إلى زاوية الحلبة فيتلقى الضربة تلو الأخرى، و يشكل الخروج من زاوية تلقي ضربات الزمن شرطا أساسيا للتحمل وعدم الاستسلام والتكيف مع فكرة الوجود في السجن الذي لا ضوء ولا تواصل ولا حتى جريدة رسمية فيه، لمدة لا يعلمها أحد سوى رئيس الجهاز الأمني الذي يتبع له مركز الاعتقال، وفي حالة المخابرات الجوية فإن حالات الإفراج عن المعتقلين لا تتم إلا بتوقيع شخصي من مدير إدارة المخابرات الجوية اللواء جميل حسن.

وبالعودة إلى ليلتي الأولى في فرع التحقيق في المخابرات الجوية، كان الوقت يمر ببطء لم أشهده في حياتي من قبل، خصوصا أنك حين تكون هناك ممنوعا من كل وسائل التواصل مع البشر، معطل الحواس باستثناء حاسة السمع التي لا يصلك من خلالها سوى صرخات المعذبين أثناء التحقيق معهم، أو تمتمات الجلادين وشتائمهم. أما حاسة اللمس فكانت في حالتي وأنا المكبل إلى الخلف مقتصرة على استطلاع خشونة البطانية التي ألقاها عناصر السجن فوقي لضمان أن أبقى كفيفا فيما لو حاولت رفع رأسي وحاولت عيناي التسلل من فراغ لا يتجاوز بضع مليمترات بين الطرميشة والعين والتي يوفرها لي حجم أنفي الكبير، أما حاسة الشم فتلك كانت مصيبتي وأنا الجالس في ممر المراحيض، وعلاوة على ذلك رائحة البطانية نفسها التي لا أدري كم من المعتقلين قد التحف بها أو كم جثة قد حملت.

كل ذلك كان يزيد من إلحاح السؤال في عقلي عن الزمن، كم هي الساعة الآن؟ وماذا ستحمل الساعات القادمة؟ تزداد الأسئلة أكثر مع ازدياد الهدوء وانعدام أي صوت لحركة في المحيط، حتى التمتمات القادمة من بعض الزنازين أو من غرفة الجلادين عن إبريق المتة والبحث عن الولاعة كلها توقفت. إذاً هو وقت النوم يؤكد ذلك الازدياد في برودة نسمات الهواء التي كانت تخترق البطانية، إذا فالوقت صار بعد منتصف الليل فكم بقي إذا لطلوع الشمس؟ ومتى يبدأ المحقق مقابلة المعتقلين؟ وهل يا ترى سينام المحقق في السجن فيبدأ التحقيق باكرا؟ أم أن له بيت يبيت فيه فيتأخر بسبب فنجان قهوة تصنعه له زوجته صباحا قبل أن توقظه على أنغام أغنية لفيروز! ربما سيتبادلان الحديث عن الإرهابيين والمندسين، ثم يروي لها كيف عذب معتز وآخرين في الليلة السابقة، إذاً سيتأخر المحقق عن الوصول إلى مكتبه، إذاً متى يحين دوري في التحقيق؟ وعن ماذا يا ترى سيسألني؟ أسئلة نهشت عقلي لساعات حتى شارفت على الانهيار في زاوية حلبة النزال مع الزمن.

 استسلمت حينها لنوم لا أعتقد أنه قد كان طويلا، لكنه كان المنقذ الذي انتشلني في الوقت المناسب من الغرق، استيقظت على صوت تسليم عناصر المخابرات والحرس والجلادين مهامهم لزملائهم في النوبة الصباحية، وكان من مراسم الاستلام والتسليم حينها طرق على أبواب كل الزنازين مع حفلة شتائم صباحية بمثابة تحية الصباح ثم تلاها طرق بالهراوات أو عصي الكهرباء على أجساد من كانوا يبيتون في ممر السجن وأنا كنت من بينهم.

بعد دقائق راودتني فكرة رفض طعام الإفطار كنوع من الإضراب حتى أعرف لماذا تم اعتقالي وما هي تهمتي ومتى سيتم إخلاء سبيلي، وبالفعل بعد أن سمحوا لي باستعمال المرحاض ثم بدأ توزيع طعام الإفطار والمكون يومها من رغيف خبز وبيضة مسلوقة، أخبرت السجان بأني لا أريد أن آكل معتقدا أنه سيفاوضني؟

بعد دقائق راودتني فكرة رفض طعام الإفطار كنوع من الإضراب حتى أعرف لماذا تم اعتقالي وما هي تهمتي ومتى سيتم إخلاء سبيلي، وبالفعل بعد أن سمحوا لي باستعمال المرحاض ثم بدأ توزيع طعام الإفطار والمكون يومها من رغيف خبز وبيضة مسلوقة، أخبرت السجان بأني لا أريد أن آكل معتقدا أنه سيفاوضني أو أنه على الأقل سيشكوني إلى الضابط ولم أكن أستبعد أن يصاحب ذلك ضرب من نوع ما، لكني لم أكن أمانع ذلك طالما حقق القرار هدفه، إلا أن رد السجان كان مقتضبا بالقول: في جهنم يا كلب! وزاد الطين بلة أني بدأت أتضور جوعاً، وأن تناول الطعام كان فرصتي للاستراحة من ألم القيد في يدي المكبلتين إلى الخلف.

قررت حينها أن ألجأ لخطة بديلة فلم أعد قادرا على التحمل أكثر، وبالفعل بعد مرور وقت ليس بقصير ومع بقائي على حالي دون اقتيادي إلى التحقيق، قررت أن أخالف الأوامر التي وجهت لي عند وصولي بعدم الحركة وبوجوب بقائي جالسا بنفس الوضعية، فوقفت ودفعت برأسي البطانية التي كنت مغلفا بها، متجاهلا كل الشتائم التي وجهها الحراس وأوامر العناصر لي بالعودة والجلوس كما كنت.

 مع تجاهلي لكل ذلك فهم العناصر أنها محاولة للعصيان ما دفعهم للركض باتجاهي وضربي بشكل قاس للغاية، حينها قررت الصراخ بالقول: بدي شوف الضابط، أنا ما عملت شي لترموني هيك بهالشكل.

في الواقع وبالتأكيد تمكن السجانون من إرغامي على الانبطاح على الأرض وباتت أقدامهم على عنقي وبعضهم على وجهي، القرار الجيد الذي اتخذته يومها كان بعدم التوقف عن الصراخ وتكرار الطلب بمقابلة الضابط، يبدو أن الضابط قد طلب منهم جلبي بعد أن علا صراخي، فبدأ الحرس بسحلي في الممر إلى ما يعرف بساحة التعذيب والشَبّْحْ ويعرفها كل من مر على فرع التحقيق القديم في المخابرات الجوية، ويقصد بالشبح تعليق المعتقل من معصميه إلى أعلى بعمود حديدي فيصير المُعّْتَقَلُ مرتفعاً عن الأرض ويلقى وزنه كله على معصميه، وذلك بلا مبالغة أحد أسوأ وأبشع أنواع التعذيب، فكلما طال زمن الشبح كلما فقد المُعتقَل إحساسه بيديه حتى يغمى عليه.

وصلت إلى مكتب المحقق الرائد في المخابرات الجوية سهيل زمام والذي عرفت اسمه لاحقا في رحلة الاعتقال اللاحقة، وأستطيع أن أجزم أنه أكثر الشخصيات الدموية في المخابرات الجوية، ومسؤول عن استشهاد الكثير من المعتقلين تحت التعذيب، فلا شيء في الكون يسعده أكثر من تعذيب المعتقل، ولي معه تجربة ليست بقصيرة ولا مناص من روايتها وآمل ألا تقتصر روايتها على مدونة "العربي الجديد"، فأمنيتي التي آمل أن تتحقق يوما ما أن تروى تلك التجربة في محكمة يكون فيها سهيل زمام خلف القضبان، وما ذلك على الله بعزيز.

73611A05-8CCD-414F-A181-15FDE3FC1D86
73611A05-8CCD-414F-A181-15FDE3FC1D86
أسامة أبو زيد

ناشط سياسي سوري، مواليد 1986، اعتقله النظام مرات.

أسامة أبو زيد