متى نكتب عن أنفسنا؟
تدوينة اليوم ستكون عني، سأكتب لي، سئمت من أخبار الحرب وصرخات القهر والوجع ورعب الأطفال وخيبة الرجال وتفجع النساء.
مطلوب منا دوما أن نتحلى بالعقلانية والمنطق، أن نضبط مساحة وقوفنا على مقاس مساحات الآخرين وحدودهم. أريد أن أغني! يبدو الكلام سخيفاً ومتبرئاً من دم الضحايا، لكننا ندندن جميعا حين نكون وحدنا، حتى أثناء انهمار دموعنا ندندن لحناً من أجلنا! من أجل تأكيد أننا ما زلنا أحياء وقادرين على القول والنطق، حتى المراسلة الحربية القابضة على قلق متفجر ورعب مترقب شاهدتها في أحد أحلام اليقظة وهي تغني يا ظريف الطول، وتغني تحديداً المقطع الأكثر حباً وجمالاً وتخييلاً في الأغنية، سمعتها تقول:
(يا ظريف الطول يا طول الحلو يا زنبق ونسمة هوا بتميلو).
هل إغلاق التلفاز وإطفاء الجوال تهمة أم شتيمة؟ هذي الروح أتلفتها الحرب، نكاد أن نشعر بالذنب فقط لأننا نستحم أو نشرب ماء نظيفاً. أرغب بأن أطلق شتائم كثيرة على الهواء مباشرة، في وجوه المنافقين والمحللين السياسيين والسياسيين أنفسهم.
تبا لهم صناع الحروب يضعون العيب فينا، يجعلوننا نشكك بإنسانيتنا، يرتكبون المجازر ويطالبوننا بالتنديد وبالتضامن
تبا لهم صناع الحروب يضعون العيب فينا، يجعلوننا نشكك بإنسانيتنا، يرتكبون المجازر ويطالبوننا بالتنديد وبالتضامن، يتلاعبون بالصور وبالأرقام، يزجون المدنيين العزّل في عبثية مواجهة مدمرة، لم يمتلك البشر يوماً قرار الحرب ولا قرار السلم، يسددون الأثمان الباهظة والساسة يحصدونها، أوسمة على الصدور، ألقاباً في الاجتماعات وعلى الشاشات، أموالاً وبيوتاً وأملاكاً ممتدة لا تعد ولا تحصى! والقتلى الهاربون من جحيم الموت والأهوال الحارقة والمدمرة، البشر الساعون لهدنة قصيرة وسريعة متروكون وحيدون وعزّل، بلا ماء، بلا كهرباء، بلا مشاف وبلا دواء، بلا حماية أو وقاية وبلا وعد بالأمان..
مساحة القطبة الجميلة على الثوب الفلسطيني تتسع أمام ناظري، تصير حكاية وبلداً وأعراساً.
والنساء نشيد الأيام القادمة، يتزينّ بأثواب فلسطينية حيكت على مهل وبحب وفخر، للأعراس، للأعياد، لزيارات القبور وللاستدلال على أسماء المدن والبلدات، تحفظ القطب أسماء بلادها وتتركها تميمة في وجه الغياب.
أريد أن أغني، أن ألعن الحرب بالغناء، أن أبتهج بالقطب الملونة على مساحة الجسد الممتد من أقاصي الشمال وحتى أقاصي الجنوب. قديما قالت لي جدتي: "إن الغولة تهرب بعيداً حين تسمع صوت غناء حنونا، صوت هدهدة أم لابنها في سريره!". سأهزم الغولة اليوم، سأطردها بعيدا وأردد:
(يا ظريف الطول وقف ت قلّك رايح ع الغربة بلادك أحسنلك).
تبقى البلاد حين تبقى الأغاني، لا بلد دونما أغنيات، ولا أغنية دونما إنسان يرددها ويكررها.
في كل صرخة أم أغنية، تفوح الموسيقا الجارحة من عبارة "بدي ولادي"، يصخب الأنين من دوي تهدم البيت، تصرخ امرأة راح البيت: "هدوا الدار". أطوف في بيتي، أتفقد الغرف، جدرانها، المطبخ وسقفه، أفتح خزائن المؤون وأبكي، أغني للطفل الميت:
(يا الله تنام يا الله تنام لدبحلك طير الحمام
روح يا حمام لا تصدق بضحك ع ابني لينام)
فجأة تفوح رائحة حساء العدس، أتخيل أطباقاً عميقة وأرغفة خبز تنقسم لكسرات يبللها الحساء، أخاف أكثر، يغمرني العجز والشعور الغامر بالفقد، لكني أغني:
(والدار دارنا والرجال رجالنا)
وأصرخ من جديد، بصوت يحشرج بالبكاء:
(يا دار يا دار دار الحلا فيكِ يا معوّدة ع الوفا الله يعافيكِ!)
يؤلمني نحيب البيوت وتشرد الحجارة وتفككها عن السقف، أصرخ في وجه الخواء، يعيد الصدى صراخي كلحن أجش وأبكم في سمفونية الفقد والدمار. لا تتوقف النساء عن الغناء ولا عن الرثاء، يحفظن الحكايات جيدا ويرددنها لأجل البقاء، يبدع الحزن في صياغة مراث جديدة، وأنا أكتب اليوم عني! ولي! والحرب تكره الأغاني، تكره قطب الفساتين المطرزة المتروكة كتميمة لتصفع الغياب.