ما تعلّمتهُ في معهد الدوحة للدراسات العليا؟
تأسّس معهد الدوحة للدراسات العليا في العام 2015، كمؤسّسة تعليمية بحثية مُستقلة، لها كليتان اجتماعية/ إنسانية واقتصادية/ إدارية، تهدفان بشكل أساسي من وجهة نظري إلى إعادة إنتاج الأكاديميا العربية، من خلال تشكيل أجيال جديدة من الباحثين العرب لهم القدرة على التفكير النقدي والتفاعل مع كافة القضايا العربية والدولية، بوصفهم جزءاً منها.
ومن خلال تجربتي الشخصية، وجدت قدراً جيداً من التوازن بين السلطة المعرفية للمؤسسة وأساتذتها وطرق التدريس. ففي قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الذي أنجزتُ فيه مرحلة الماجستير، ترتكز آليات التدريس على النقاش المتساوي والتداول المشترك والمستمر بين الطالب والأستاذ (أي التفاعل)، أو بمعنى أصح بين باحثين على أقل تقدير، تجمعهم مشتركات عدّة. وإنّ مثل هذه الآليات التي لا تضع الأستاذ مقابل الطالب، تُعيد تفكيك منطق تلك العلاقة القائمة بأغلب الكيانات الأكاديمية بالوطن العربي، وبهذا، فهي تُعيد النظر في كيفية إنتاج المعرفة، والعلاقة بين المؤسسة وأفرادها، وهدفها الرئيس.
ذلك النمط الفكري يجعلنا ننتقل بالمعرفة من مرحلة الاستكشاف، التي كانت تُصوّر قديماً/ جديداً كونها مُحتَكرة من قبل جماعة من الأفراد (الأساتذة) إلى عنصر "التعمّق"، وذلك يعني تطوير قدرات تحليلية أثناء فَهم الظواهر الاجتماعية والنشاطات الإنسانية. ذلك التعمّق الذي يُنتجه شيخ الحرفة بالتشارك مع تلميذه لا يعني أنهما يملكان قدرة للوصول إلى تفسيرات حتمية لما يعيشه الناس أو ما يجب أن يكون، بل إنّ خيط التعمُّق يبدأ معهما بغية الانتقال للمهتمين بالاشتراك في إنتاج تلك المعرفة من خلال "النقد غير المحدود" حيث الذهاب والإياب بين الأفكار، والذي يُعتبر أحد ركائز الإنتاج والتشابك المعرفي في معهد الدوحة، والذي يؤهل المعلومة لكي تصبح إنتاجاً معرفياً، وهو ما قام عليه علم الاجتماع كما عرفناه في القرن التاسع عشر.
وبهذا، فإنك عملياً، يمكنك أن تنقد أفكار رئيس قسمك بالمعهد بقدرتك نفسها على نقد أفكار زميل لك في بداية مسيرة حياته، لأنّ كليهما يخضع لشروط العلم، وبدون تلك القاعدة المُعتمدة على التشابك لا داعي لمثل تلك الجامعة، فيمكننا أن نكتفي بتداول الأفكار العائمة بالمقهى أو عن طريق الهاتف.
إنتاج معرفة كلية، يعي دارسوها عضويتهم المتشابكة مع سياقهم الاجتماعي وهموم الناس العاديين من ناحية، ومن جانب آخر، أنهم مسؤولون عن إنتاج وإخراج متميّز للمعرفة
أحد أهم المركزيات التي تُلاحظها بمعهد الدوحة أنّ العلوم لا يُمكن أن تُفهم بمعزل بعضها عن بعض، وهذا ما كان واضحاً طيلة حضوري على سبيل المثال لمقرّرات: "قضايا في العلوم الاجتماعية والإنسانية" الذي قامت بتقديمه الدكتورة إليزابيث كسّاب، والدكتور عيد محمد، ومقرّر "سوسيولوجيا المجتمعات العربية"، الذي يُحاضر به الدكتور إسماعيل الناشف. وهذا التداخل لا يتم فقط من خلال منظومة العلوم المختلفة، بل أيضاً عن طريق دفع الطلاب للنظر إلى السياقات الاجتماعية المتباينة، وعدم الوقوع في فخ "المحلّي"، أو الخروج منه تماماً، والمتابع للإنتاج المعرفي العربي حديثاً يرى أننا أصبحاً ندرس أنفسنا وتجاربنا الضيقة، وفي أفضل الأحوال نستعين بالسياق الآخر من أجل إضاءة سياقنا الاجتماعي، والذي هو أولوية للفهم بنهاية الأمر، وبالتالي يظلّ السياق الذي انبثق منه الباحث مركز التركيز المعرفي (النظري/الإمبريقي).
وإنّ وجود أساتذة وطلاب من مدارس مختلفة أوروبية وأميركية وعربية، كما حضور طلاب بخلفيات وهموم مختلفة يسّر القيام بمثل هذه الوظيفة (أي تجسير التخصّصات والسياقات) كما إثراء النقاشات العلمية، وبهذا، فإنّ ذلك يعني على الأقل السير في محاولات لفهم "كلية الظاهرة" في تفاعل السياقات بعضها مع بعض، من أجل إنتاج معرفة كلية، يعي دارسوها عضويتهم المتشابكة مع سياقهم الاجتماعي وهموم الناس العاديين من ناحية، ومن جانب آخر، أنهم مسؤولون عن إنتاج وإخراج متميّز للمعرفة، وهذا مع عدم وقوعهم في فخ "الشعبوية العلمية"، فهم ليسوا "الممثل الوحيد للشعب"، ولن يملكوا القدرة المطلقة التي تمكنهم من الحديث عن كافة المشكلات والطموحات، بل هم وسيط بين الناس والعلم.
لم يلفت المعهد انتباهي فقط كمؤسسة أكاديمية، بل أيضاً فإنّ تصميمه الداخلي مثير للانتباه، والذي هو أشبه ببيت كبير، لكنه مُعرّى من الأعلى، والذي تُبنى على أساسه أمور عدّة، مثل: طريقة تشكيل العلاقات الاجتماعية، والتعامل مع الضغوطات النفسية، ونظرة الآخرين إليك، كما تصورك لنفسك ولحركتك.
ومعمارياً، يختلف معهد الدوحة المؤسسة الفكرية/البحثية، الذي يعتمد بالأساس على التفكير الدائري لا الخطي عن معهد الدوحة/ المكان، فهو رباعي الشكل مُكوّن من أربعة خطوط رئيسية، حيث لا مكان للمراوغة الاجتماعية/ النفسية، بل تعيد إنتاج نفسك ومن يجاورك، وقد حاولت عابثاً أن أرسمُ خريطة تحرّكاتي داخل المعهد في أيام مختلفة، فوجدّتُ أنّ الزمن يتغيّر (بالمعنى الخطي أو الدائري) لكن الحركة ثابتة نوعاً ما، ما يخلق إحساساً بالضغط والمراقبة طوال الوقت، وهذا عكس أماكن عدّة مثل جامعة مرمرة حيث أنهيت مرحلة الليسانس.
وهذا قد شكّل عندي ارتباكاً، ففي حين أنّ معهد الدوحة، المؤسّسة العلمية، يتحوّل بداخله كلّ شيء من أفكار وأزمنة ورموز بشرية واجتماعية، لكنَّ الحركة ظلّت على النقيض تماماً. وهذا يمكن فهمه من خلال "الوظيفة" التي تعتمد روتيناً معيّناً يدفعك لتكرار حركتك، من السكن، ومروراً بالكافيه هاوس والمركز العربي، ووصولاً إلى المكتبة والمبنى الأكاديمي.
وبذلك، فإنك كطالب أو باحث، تُفضّل أن تكون أكاديمياً على عتبة واحدة مع الباحثين والأساتذة الآخرين، أو أنك تمرّ في عوالم متوازية، لكنك في الوقت نفسه، تحاول أن تخلق نافذة تجدّد من خلالها حركتك، بما يتناسب مع تحديات الغربة.