لماذا نصدّ قصيدة الهايكو؟
لا أعرف لماذا يجدُ الهايكو المغربي ممانعةً من طرفِ قرّاء وشعراء وكتّاب، كما لو أنه أمام حائط منيع يحاول صدّه مجانًا، في عمليةِ رفضٍ تلقائي له، بما يشبه رفض الجسم لعضوٍ مزروع. علمًا أن الهدف من العضو المزروع يكون دائمًا تعويض نقصٍ، تعويض بتر، تعويض غياب. هذا إذا اتفقنا من الأصل على أن الهايكو يُعتبر عضوًا مزروعًا. بينما لا شيء يؤكد ذلك. حيث إن الهايكو حين يكون متقنًا وعابقًا برائحةِ المكان الذي وُلِدَ فيه يصيرُ بسلاسةٍ شديدةٍ عضوًا طبيعيًا، وليس عضوًا مزروعًا. كما أن العضو المزروع مع الوقت يصيرُ عضوًا طبيعيًا، بل ويستطيع من زُرِعَتْ له يد مثلًا، أن يحرّك مع الوقت أصابع تلك اليد الغريبة التي تصبح ضروريةً، أليفةً، وجزءًا منه.
السؤال الذي علينا طرحه هو: ما هو الخلل أو الداء أو العائق الذي تُعاني منه القصيدة الشعرية اليوم؟ بكل أشكالها، سواء التقليدية أو الحديثة، العمودية أو قصيدة النثر أو قصيدة ما بعد قصيدة النثر؟ الشعر كالماء حين يجدُ عائقًا صخريًا أمامه يغيّر طريقه باحثًا عن مسارب جديدة. لا يمكننا فصل الهايكو عن ثقافته البعيدة، وعن فلسفته، وعن جذوره الضاربة في عقيدةٍ نائية عند رهبانه القدامى، إلا أن ما يصل إلينا هو القالب الشعري لكل ذلك من دون ما هو داخله. يشبه ذلك مزاوجة التصوّف لفلسفته بالشعر، حيث يمكننا دائمًا عزل الشعر والاستمتاع به وتذوّقه من دون أن نكون بالضرورة من أهل التصوّف، أو التشوّف حتى. بل إن كتابة أشعار ذات طابع صوفي (كما حدث ذلك بكثافةٍ في فترةٍ زمنيةٍ معيّنة)، أو الاستفادة من قاموسِ التصوّف على الأقل، حيث إنه يُعدّ رافدًا شعريًا، جديدًا، غنيًا، لا يجدُ الشعر حرجًا في قبوله. كما لا يجدُ الشعرُ أيضًا حرجًا في قبولِ تقنيات الهايكو وقوالبه وشكله الذي يشير إلى رافدٍ لغوي ورؤيوي جديد سيغني الشعر من دون شك.
هناك فرق بين أن تكون شاعرًا مغربيًا، أو شاعرًا عربيًا فقط، وبين أن تكون شاعرا كونيا. الفرق هو ما يتمثّل في حائطِ الصدِّ الرافض لكلِّ ما هو غير مغربي أو غير عربي، محدّدين هويّتنا وهويّة الشعر تحديدات أيديولوجية، وليست إنسانية كونية. لغةُ الشعر ليست هي العربية، بل هي لغة الإنسان أينما كان، ولغةُ الكون على اتساعه، كما أن ثقافته أيضًا هي ثقافة الإنسان والكون، من دون حائط أو سدّ أو موانع أو خطوط حمراء.
الشعر كالماء حين يجدُ عائقًا صخريًا أمامه يغيّر طريقه باحثًا عن مسارب جديدة
أما طبيعة الهايكو، فهي في حدِّ ذاتها متخفّفة إلى أقصى حدٍّ من الإفراط، ومن الثرثرة، ومن الإثقال بالثقافة المحلية، متركزةً أكثر في الطبيعة والتأمّل والإشراقات والاستنارة. لذلك نجد أنه، ربما أكثر الأجناس أو الأنواع الشعرية القابلة لخرقِ الحدود والانتقال والتجذّر بسرعة في لغاتٍ وجغرافياتٍ أخرى. ببساطة شديدة لأنه بلا جذور. إنه متخفّف منها بقوة. خفيف، ورغم ذلك حي. غير متجذّر ورغم ذلك زاهٍ. إنه كزهرة اللوتس نفسها، زهرة التأمل العائمة في الماء. بحيث يمكننا القول إنّ جذوره الضاربة في القدم، وفي الفلسفة، هي الهواء.
ليس المغاربة وحدهم أو العرب من فُتنوا بهذا الشكل الشعري وشعروا منذ البداية أنه يمسّهم ويخترقهم بسهولةٍ ويدعوهم إلى كتابته، وليس قراءته فقط، بل كل شعراء العالم تقريبًا، وكل البلدان والقارات.
شخصيًا أجدُ في قراءةِ الهايكو المغربي والعربي متنفسًّا كبيرًا ومتعةً وعمقًا شعريًا تكاد القصائد المتعارف عليها تفقدها اليوم لأسبابٍ كثيرة تحتاجُ إلى دراسات طويلة. لعل أحدها وأهمها التغيّرات السريعة التي عرفها عصرنا، ولم يستوعبها الشعراء بعد. وكأنّ الهايكو هنا، باقتضابه، وسرعته، وطبيعته هو المناقض الأوّل والندّ لهذه التحوّلات الاستهلاكية العولمية والافتراضية التي أبعدت الإنسان عن طبيعته، وعن حياته القديمة البسيطة.
يمكننا دائمًا عزل الشعر والاستمتاع به وتذوّقه من دون أن نكون بالضرورة من أهل التصوّف أو التشوّف
لم تعد قراءة الشعر، ولا كتابته، تُغريني كثيرًا، حيث إنني أتحسّس عائقًا ما. كما أن النصوص الشعرية التي تدهشني باتتْ أقل أمام سيولةٍ كبيرةٍ من كتابةِ القصائد ونشر الدواوين وابتعادِ الشعر عن العمقِ لصالح السطح. أما الهايكو، فعلى العكس من ذلك، يُنعش مخيّلتي ويخرجني من متاهةِ الإفراط والتشابه والتسطّح والدوران المستمر داخل مناطق شعرية تم استهلاكها بالكامل تقريبًا، لغةً ومعنى.
الهايكو ذلك اللمعان الشفاف المستمر والأبدي للأشعة، ببساطتها وسحرها الباطني، باقتضاب شديد ودون ادّعاءات، وبتجرّد إلى أبعدِ حدٍّ عن ذات الشاعر إلى ذاتِ الكون نفسها وذات المطلق، ولعل قوّته واستمراره وقدرته على البقاء والتجدّد ومواكبة كلّ العصور تكمن بالضبط في ذلك التجرّد. لا يهمنا الشاعر وأناه في الهايكو، بقدر ما يهمنا الهايكو نفسه الذي لم يخترعه الشاعر، بل الهايكو هو من يخترع الشاعر.
في الوقت الذي علينا فيه الإنصات لهذا الرافد الذي يكسر رتابةَ النصِّ الشعري الحديث الذي بات تقليديًا تقريبًا، والإصغاء إلى لغةِ الوجود وعمقه داخل نسماته ووريقاته وأشعته الصغيرة التي تنطوي كلّ المعرفة، وكلّ الفنّ، داخلها، أو على الأقل بموازاتها، عوض ذلك، كالعادة، إنّ ثقافتنا تحاربُ كلّ جديدٍ خلّاق.