لماذا شعرت فرنسا بالإهانة؟
إنّ أي تدخل إنساني هو، قبل كلّ شيء، شأن جيوسياسي، إذ أبانت تجارب سابقة ومريرة كيف أضحى تقديم المساعدات ووضع برامجها ساحة معركة في اهتمامات الحساب القومي الاستراتيجي لمانحي المساعدات. والمغرب رفض أن يكون ميداناً لعمليات إنسانية غير مُتحكّم فيها.
بادرت، منذ البداية، أكثر من ستين دولة ومنظمة بإعلان استعدادها لدعم المغرب بتقديم مساعدات مالية ولوجستية: روسيا، ألمانيا، فرنسا، إسبانيا، بريطانيا، الصين، الهند، تركيا، الولايات المتحدة الأميركية، الیابان، هولندا، إلخ.
الجواب المغربي: "نحن بصدد إنجاز تقييم شامل للحاجيات والمتطلبات"، وفي ضوئها سيجري التعامل مع العروض المناسبة، وذلك استحضاراً لمخرجات الاجتماعات حول "سياسة المساعدات" في استوكهولم (2003)، باريس (2005) وأكرا (2008)، التي ناقشت الانحرافات المرافقة للمساعدات الدولية، وربطتها على أساس احتياجات الدول المتضرّرة، وليس وفق استراتيجيات الدول المانحة، وبخاصة الكبرى.
التقدير الأوّلي المغربي اكتفى بالموافقة على طلبات قطر، الإمارات، إسبانيا وبريطانيا، وتأجيل الرد على باقي العروض الأخرى موازاةً مع إنجاز التقييم المذكور، إلا أنّه من بين أكثر من ستين عرضاً دولياً شعرت فرنسا، وحدها، بالإهانة! لماذا؟
يلخّص الإعلام الفرنسي الموقف المغربي في "السياسة والصحراء..."، لكن هذا لا يدعو إلى كلّ هذه "الجذْبة" الإعلامية، فضلاً عن الشعور بالإهانة، إلّا إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية "النفسانية الجماعية" الفرنسية كما كيّفها التاريخ، التي ترى في فكرة "المساعدة الدولية" في أثناء الكوارث منّة من قوى عظمى إلى شعوب وأمم مضطرة إلى أن "تتوّسل وتستجدي" المساعدة، وبالتالي توظيف هذه "المنّة" في حسابات جيوسياسية. مقاربة كهذه سبق للهند أن تصدّت لها في زلزال 1993، ورفضت مُجمل العرض الدولي آنذاك، لأنّه في أحايين كثيرة، يكون ملغوماً، وينمّ عن نظرة استعمارية واستعلائية.
مارس المغرب حقه السيادي في اتخاذ ما يراه مناسباً من قرارات، وفق رؤيته المستقلة
يكفي هنا التذكير بتقارير دولية، غير حكومية، انتهت إلى أنّه "منذ 2001 بدأت اعتبارات الأمن القومي القديمة تكتب رسمياً في سياسات المساعدات وقرارات التمويل في الولايات المتحدة وكندا وفرنسا". المغرب مضى في "المقاربة الهندية"، ورأى أنّ من حقه اعتبار نفسه مؤهلاً لمواجهة آثار هذا الزلزال، وأنّه يتوافر على ما يكفي من الإمكانات الدولتية والمؤهلات الشعبية لمواجهة تداعيات الكارثة التي ألمّت به، وأنّه قادر على تكريس استقلاله الذاتي الذي يحفظ كرامة شعبه، وهذا ما أدركه الشعب المغربي نفسه، بحدسه الطبيعي التضامني، الذي فوّت أشكال الاستجداء الدولي والتجارة بمأساته، وهنا تُطرح مسؤولية الدولة، ليس فقط تجاه ضحايا الكارثة، بل مسؤوليتها في حماية المجتمع برمّته من الممارسات المشبوهة والأهداف السياسية الملغومة.
هكذا، إذاً، مارس المغرب حقه السيادي في اتخاذ ما يراه مناسباً من قرارات، وفق رؤيته المستقلة، رافضاً بذلك مصادرة حقه، رغم الضغط والابتزاز الفرنسي ضدّه من أجل الاستسلام لقبول قرارات بالنيابة عنه، ليس حسب حاجياته فقط، بل كذلك وفق حسابات واستراتيجيات أخرى، وهي الفرصة التي شعرت فرنسا بأنّ الرؤية المغربية السيادية للكارثة سبّبت ضياعها. ألم تقل، في مناسبة مُماثلة، كاتبة الدولة الأميركية السابقة، كوندوليزا رايس، تعليقاً على المساعدات الأميركية عقب تسونامي 2004 بإندونيسيا: "إنها فرصة رائعة!". لقد كانت هذه الكارثة الوسيلة التي تحلم بها أميركا للعودة، مرّة أخرى، لإيجاد موطئ قدم في منطقة جنوب شرق آسيا.