لا دين.. ولا وطن!

12 يونيو 2024
+ الخط -

أكاديمي خليجي يُتحفنا بأنّ "من كان دينه أهم من وطنه فلا أمان له"؛ كأنّ ثمةً تعارضًا بين أن تكون ملتزمًا بدينك، وحريصًا على وطنك، فضلًا عن تعظيمِ فكرةِ الوطن في الأديان، وأنّ كثيرًا من الحركات الوطنية، وحركات التحرّر، انبثقتْ من رحمِ عقائد إيمانيةٍ راسخة، وقواعد دينية تستندُ إليها، وتكون المحرّك والدافع، وأحيانًا الحافز والحاشد على مواصلةِ الحراك، أو على الأقل، لم يكن "الدين" مُعطّلًا لهذه الحركات، بل يُسيء استغلاله محاربو التحرّر أنفسهم، من أصحابِ السلطات، في قمعِ الثوّار وتمرّدهم. 

ثم إنّ الملمح الأهمّ في حركةِ التحرّر الحالية، المنبثقة من قطاع غزّة في فلسطين، هو الوطنية، فكان الطوفان غيرةً على الأرض، والعرض، والقضيّة، ثم المسرى الذي يعدّ هُويّةً وطنيةً لا مجرّد قيمة دينية فقط، وإنّما يمتدّ لعمقِ الفلسطينيّ، الملتزم وغير الملتزم، المسلم والمسيحيّ، الذي يعتقد بصدقٍ أنّ ذلك المكان يخصّه، كما يغارُ المسلم الفلسطينيّ على كنيسةِ القيامة، ولا يفرّق لا مسلم ولا مسيحي بين الخليل وبيت لحم.

ولا بأس حتى بأن يتقدّم الدين على الوطنية في أزمان أو أفكار أو أماكن، لأنّ من قيَمه تقديس "الوطنية" تلك، فتنتسب إلى بلدٍ إن قُتلت دفاعًا عنه، من منطلقِ الدفاع عن مالِك وعرضِك وأهلك ودمك، يمنحك أعلى درجات الشرف في الإسلام، وهو وسام "الشهادة"، وبالتالي فإنّ الدين يُعلي من قيمةِ الوطن، وليس فقط أنّه لا يتعارض معه.

يغار المسلم الفلسطينيّ على كنيسة القيامة، ولا يفرّق لا مسلم ولا مسيحي بين الخليل وبيت لحم

لكن بعيدًا عن ذلك المعترك حول نقطةٍ واسعة، لا يضيّقها إلا ضيّق أفق، فإنّ من يحدّثنا نفسه، ضمن جوقةٍ لسلطةٍ لا احترمت لنا دينًا، ولا أبقت لنا وطنًا، فحاربت "الإسلام السياسيّ" ظاهريًّا وحاربت "الإسلام" نفسه باطنيًّا، ولاحقته تشويهًا واستهدافًا حتى عواصم أوروبا، ولاحقت المنتسبين إليه في عواصم الشرق، بينما تفتتح لكلّ "إلهٍ" جديد عندها معبدًا كلّ صباح، وهي نفسها تجعل من عاصمتها مرتعًا لكلّ من تريده، وتستضيف بسراياتها الفاخرة من لم يبقوا لنا دينًا ولا وطنًا، ويذبحون منذ ثمانين عامًا قومًا تمسّكوا بأرضهم وعقائدهم على اختلافها واتساعها.

لم يحدّثنا الأكاديمي نفسه عن تجربةِ بلاده في محاربةِ ذلك كلّه، وكيف هو الأمان في جوار علاقاتٍ دافئة مع من يؤرقون أمان أمّة بأكملها، ولم يحدّثنا عن دينِ نظامه الذي يعتقد أخيرًا الأبراهامية، التي تمنح "الأوطان" بموجب "الأديان" إلى من لا دين لهم ولا أرض، ولم يحدّثنا عن رأيه في الاحتلالِ الإسرائيلي، كياناً يزعم بحكم "عقيدته" أنّ له حقًّا في "أرض" لا يملكها ولا يصله بها أيّ شيء، إلا اجتماع العالم على نبذه من أوروبا إلى تلك البقعة في المشرق العربيّ، فاحتلها وسرقها ونهبها وذبح أهلها في مجازر ومحارق، ثم يبدأ قائد ذلك الكيان الوظيفي كلّ خطاب له، أو ينهيه، بسطرٍ من "كتابه المقدس"، ومبرّرًا كلّ جريمةٍ بنبوءةٍ "عقدية".

غالبًا لم يكن يعلم ذلك "المثقف" وهو يلمز حالتنا الماجدة أنّه أكثر جبنًا من أن يقصد به الحالة الفاسدة الأخرى، لأنّ نظامه لن يسمح له بأن يعكّر مزاج الأصدقاء في تل أبيب، وإنّما يحاول في المقابل أن ينال اهتمامًا من أصحاب غزّة، وهو أدنى بكثير، وكلّ من على شاكلته، أن يلفت انتباههم، بذلك البؤس الثقيل.