لا تبارحني دمشق

06 يناير 2023
+ الخط -

يقول لي صديق مغربي: "لم أزر دمشق لكنّني أحبها". لم أستغرب الأمر، فأنا أيضاً عشقت مدناً كثيرة لم ترها عيناي قط. لطالما أحببت القاهرة، حلمت بأثينا، طفت في حارات إسطنبول، وتجوّلت روحي في سماوات قرطبة وغرناطة.

 تساءلت في نفسي ذات مرّة: كيف لإنسان أن يحب مكاناً لم يزره. لقد أحبّ المسلمون والمسيحيون واليهود عبر التاريخ مدينة القدس. حتى أولئك الذين لم يسافروا إلى فلسطين أحبوها بشدّة، تغزّلوا بها، كتبوا عنها القصائد وغنّوا لها. لم تكن الكاميرا حاضرة دوماً في ماضي المدينة، ولم يروا صوراً لها، لكنهم عشقوا الحكايات والأساطير التي تُنسج حولها. لم تكن جغرافيا المدينة هي المقدّسة، إنما الروايات.

كانت القدس وما زالت قبلة للجميع. مدينة عائمة في أذهان المؤمنين واللامؤمنين، حاضرة في كلّ زمان، حاضرة بين الوعي الديني واللاوعي الإيماني. كلّ منهم يرسم للقدس خريطة ذهنية في مخيلته دون أن يراها، يحلم بنفسه يسير حيث مشى الماضي يوماً ما.

نعم قد يحدث أن يعشق المرء مدينة لم يزرها، لا لشيء إلا لأنّ لها حيّزاً ما في خريطة ذهنه. وحينما يخلق المرء تصوّراً ذهنياً مليئاً بالأخيلة عن مكان ما، سيشتاق بكلّ تأكيد إليه. هو ليس شوق المسافر لوطنه ولا حنين المغترب لأهله، إنما السعي لتوطين الأخيلة في جغرافية مادية خوفاً عليها من الضياع لشدّة التعلّق بها.

والقدس أكثر الأماكن جاذبية حينما يتعلّق الأمر بتجسيد الأخيلة من خلال توطينها بأمكنة مادية، كما تقول المؤرخة الأميركية أنابيل جيه وارتون. وقد يحدث أن يخاف المرء زيارة أمكنة أحبها دون أن يراها، حتى لا تسقط صور المكان في ذهنه صريعة أمام واقع المدينة الحالي. ولكم أخشى أن أزور بيروت وبغداد اليوم.

يخاف المرء زيارة أمكنة أحبها دون أن يراها، حتى لا تسقط صور المكان في ذهنه صريعة أمام واقع المدينة الحالي

وأن يحب المرء موطنه الذي وُلد به ويشتاق إليه، فذلك أمر طبيعي. المرء هنا لا يسعى لتوطين أخيلته، فهذا النوع من الشوق هو استرجاع للذكريات ووفاء لها. وحينما يتعلّق الأمر بدمشق فلا شيء يحول بيني وبين الذاكرة، أنا المشتاق لها بكلّ ما عرفته بها من تفاصيل. أشتاق إلى جامعها وجامعتها، أسواقها وشوارعها، حاراتها وزواريبها، زحامها وسكونها، نهارها وليلها، شتائها وصيفها.

أحنّ إلى رائحة ياسمينها، فكثيراً من الذكريات توقظها الروائح. ليست الروائح المنبعثة من سوق العطارين فقط، إنما تلك المتسلّلة من سوق البزورية، حيث تزاحم روائح البهارات روائح العطور. لا مكان للبارفان الفرنسي هنا، ولا للبيتزا الإيطالية، فما من شيء يستطيع أن ينافس عبق الماضي الخاص بالمدينة.

إني مفتون بدمشق حدّ الهذيان. وهذياني هذا هو حنين لا تتم دعوته ولا أجاهد لاستحضاره، إنما يباغت الروح على حين غفلة. فما إن أخرج اليوم من محطة أمستردام الرئيسية حتى أرى فندق فيكتوريا الدمشقي. وفي طريقي إلى ساحة الدام أمر بكنيسة القديس نيكولاس، فأجد نفسي فجأة في باحة المسجد الأموي. أتابع مسيري باتجاه متاحف أمستردام الأثرية، فأراني ألتقط صوراً للتكية السليمانية. أتحسّس التوليب الهولندي فأشمّ رائحة الياسمين الدمشقي.

أما التفاصيل التي لم يتسنَّ لي أن أعرفها في دمشق، فإني أخلق لها حيّزاً خاصاً أملأه بالأخيلة، حتى لا يفوتني شيء من دمشق، ولا أشتاق إليه.

حينما يتعلّق الأمر بهذه المدينة، فنحن حرّاس ذاكرتها. لا يعنينا التاريخ أبداً، إنما الذاكرة فقط. لا أفكر في أن أكون باحثاً موضوعياً عند الحديث عن دمشق، إنما رساماً تشكيلياً على جدران ذاكرتي.

في دمشق لا تهمني الأسباب وراء الأحداث، إنما صور الأماكن التي وقعت فيها تلك الأحداث. لا يهمني كم كان عدد الجنود الذين خرجوا دفاعاً عن المدينة، إنما أسماؤهم. لا يهمني لأي سبب وقعت المعركة، إنما كيف انتهت. ففي نهاية الأمر يرحل الجميع، تستقبل المدينة جيلاً جديداً وحاضراً مختلفاً، ونصبح نحن الذاكرة.