تبني الصهيونية ورفضها في الأدب اليهودي
إنّ الصهيونية، ومنذ نشأتها مطلع القرن التاسع عشر محلّ جدل بين المجتمعات اليهودية، فهناك من تبنى أفكارها وهناك من رفضها. ويوجد من فُرضت عليه مشاريعها قسرًا، كما حدث مع كثير من اليهود العرب بعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 على أرض فلسطين المحتلة.
وحينما نتكلم في العالم العربي عن الخلاف اليهودي حيال الصهيونية، فغالبًا ما نقصد فيه الخلاف في السياق الديني. ونادرًا ما يلفت نظرنا الجدل في الأدب اليهودي حيال الفكر الصهيوني، والذي هو في جوهره انعكاس للخلاف الاجتماعي اليهودي في هذه المسألة. وبالتالي توضح القراءة في هذا الأدب الخلاف حول الصهيونية ما بين المجتمعات اليهودية المختلفة. ولأجل الإضاءة على ذلك سأقارن في هذا المقال بين رواية "إلى هذا اليوم" للكاتب اليهودي المنحدر من شرق أوروبا شموئيل يوسف عجنون، ورواية "الرجس" للكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش.
شموئيل يوسف عجنون
سمير نقاش
ولد سمير نقاش في بغداد لأسرة يهودية ثرية، إذ كان جده صائغًا. هاجرت أسرته إلى إسرائيل عام 1951 حينما كان عمره ثلاثة عشر عامًا. ظلّ نقاش مرتبطًا بالعراق ورافضًا العيش في إسرائيل التي حاول مغادرتها أكثر من مرّة سيرًا على الأقدام باتجاه لبنان. وفي إحدى المحاولات لدخوله إلى لبنان اعتقلته السلطات اللبنانية لستة أشهر، ثم أُعيد إلى إسرائيل التي سجنته أيضًا خمسة أشهر بتهمة التجسّس. وشكلت هذه المغامرة في حياته مادة روايته "رجس".
قراءة في رواية "إلى هذا اليوم"
تدور الأحداث حول شاب يهودي من أوروبا الشرقية، يعمل مؤرخًا وهاجر إلى فلسطين، لكن الفقر يجبره على الانتقال للعيش في برلين، حيث يتلقى رسالة من أرملة صديقه الراحل الدكتور ليفي، تطلب منه القدوم إلى "جيرما" لتستشيره بما يجب أن تفعله بمكتبة زوجها الضخمة التي تضم الكثير من الكتب اليهودية. وخلال سفره يلتقي بالعديد من المعارف السابقين. أمّا في طريق العودة إلى برلين، فيصطحب معه ابن صاحبة النزل الذي كان يقيم فيه، فيأخذ الغرفة التي كان يسكن فيها بطل الرواية، وهي الغرفة الوحيدة المتبقية في النزل. يصبح بطل الرواية مشرّدًا باحثًا عن غرفة يبيت فيها في برلين، المدينة المكتظة باللاجئين والمهاجرين. وفي نهاية الرواية يسافر مجددًا إلى يافا ويتدبر أمر مكتبة الدكتور ليفي ليصحبها معه.
تدور أحداث الرواية في زمانين متشابكين، زمن رئيسي وواضح، هو فترة الحرب العالمية الأولى، وزمن ثانوي وخفي هو الزمن اليهودي الذي يستحضره الكاتب من خلال الرموز التوراتية والتلمودية. ويتشابك الزمنان معًا في الرواية، كحديثه مع صاحبة النزل عن أحلامه التي لا يرغب بتفسيرها، فيقول: "أنا لست فرعون ولا نبوخذنصر ولا يوجد يوسف أو دانيال في عصرنا هذا". أما بالنسبة للمكان، فتدور الأحداث في أماكن عدة في ألمانيا، من برلين إلى لايبزغ، وقرية صغيرة تدعى "جيرما"، حيث تسكن أرملة الدكتور ليفي، ومحطات القطار التي تربط بين هذه الأماكن.
تبرز رؤية الصهيونية في ألا مستقبل لليهودية إلا من خلال حفظ الماضي اليهودي، والدولة هي الضمان الوحيد لذلك
كما يستحضر الكاتب فلسطين في بداية الرواية من ذاكرته الشخصية وفي نهاية الرواية حينما يهاجر إلى فلسطين مرّة أخرى، ليقارن بينه وبين المكان في ألمانيا، خصوصًا في برلين. البيئة المكانية في ألمانيا فوضوية، مزدحمة ومرهقة في الوقت نفسه، كما أنّها ليست مستقرة حيث يتوجب عليه أن يتنقل من نزل لآخر ومن غرفة لأخرى، حتى إنّ بطل الرواية اضطر للنوم في الحمام في إحدى الليالي. وذلك، على عكس البيئة المكانية في فلسطين التي ظهرت في الرواية مرتبة، أنيقة ومستقرة.
لم يكتب يوسف عجنون بلغة أخرى غير العبرية إلا في بداياته عندما كتب باليديشية في عمر الخامسة عشر. وبالتالي يتبنى الكاتب الفكر الصهيوني في الرواية بشكل أساسي من خلال العبرية. فهذه اللغة كانت أهم أدوات الصهيونية للتحوّل من اليهودية كديانة إلى اليهودية القومية. كما أنّها أداة صدّ لمواجهة اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، حيث رفضت الصهيونية فكرة المواطنة التي تربط اليهودي بالبلد الذي يعيش فيه. ويستحضر عجنون اللغة العبرية كعنصر من عناصر القومية عندما ينتقد اليهود الألمان الذين لا يتحدثونها، إذ يصفهم بسخرية بأنهم ألمان أكثر من الألمان أنفسهم. ويعبّر عن ذلك بشكل أوضح عندما يرفض بطل الرواية أخذ كتاب بالعبرية لأنه مناهض للصهيونية. فاللغة العبرية ليست هدفًا بحدّ ذاتها، إنما هي أداة في خدمة الصهيونية. ثمّ ينتقل الكاتب لمستوى آخر من خلال انتقائية المفردات المستخدمة، فهو يستخدم مصطلح العودة إلى أرض إسرائيل لوصف الهجرة اليهودية إلى فلسطين. كما يسمّي فلسطين بأرض النور ويقدمها كنقيض لأراضي الظلام، والتي يقصد بها بلاد الشتات اليهودي. ويبدو ذلك حينما يقارن بطل الرواية بين الشمس في يافا التي يصفها بأنها النور الحقيقي، وبين الشمس في برلين التي يرى أنها باردة ومظلمة. وفي ذلك تبنّ للسردية الصهيونية التي ترى أنّ الخلاص لليهود ليس في اندماجهم بالبلاد التي يعيشون فيها، إنّما بالعودة إلى أرض أجدادهم المقدسة.
اللغة العبرية أهم أدوات الصهيونية للتحوّل من اليهودية كديانة إلى اليهودية القومية
بالإضافة إلى اللغة المستخدمة في الرواية التي توافق السردية الصهيونية، يلجأ الكاتب للرمز. فالشخصية الرئيسية في الرواية تتنقل باستمرار من مكان لآخر في ألمانيا بحثًا عن مأوى، وذلك إشارة للسردية الصهيونية عن فكرة الشتات اليهودي خارج أرض إسرائيل، وألا حل إلا بالعودة لأرض الأجداد وبناء وطن قومي لليهود هناك. إذ يقول الكاتب على لسان بطل الرواية: "إنه عالم كبير يضم العديد من البلدان، لكل منها مدنها وقراها وبيوتها وغرفها. في بعض الأحيان يملك شخص واحد العديد من المنازل، وفي بعض الأحيان يتشارك العديد من الأشخاص في غرفة واحدة. قصتنا هنا تدور حول رجل ليس لديه وطن ولا غرفة".
إذًا، المسألة هي إنشاء وطن قومي وهذا ما كانت تنادي به الصهيونية، أما الرواية الدينية فهي أداة أخرى من أدوات تحقيق هذا المشروع القومي. ويختتم الرواية بمستقر جميل في بيت واسع في مدينة يافا، يحتوي على خمس نوافذ، كلّ منها تطل على مكان مختلف من أرض الأجداد. وقد ترمز النوافذ الخمس إلى أسفار موسى الخمسة التي تشكل التوراة بحسب التقليد اليهودي. كما يستحضر الكاتب الرمز للتماهي مع الصهيونية في رفض الاندماج، من خلال رمزية شخصية الدكتور ميتل الذي يعيش وحيدًا مهملًا في منزله بلايبزغ، بعد أن قدّم إسهامات كبيرة للفكر الألماني. لكن الرمز الأوضح لفكرة رفض الاندماج يتجسّد من خلال مكتبة الدكتور ليفي الضخمة، والتي أصبحت خارج الزمان والمكان، وغدًا قد تصبح طعامًا للفئران. فقط في المجتمع الصهيوني وباللغة العبرية يمكن أن تجد لها مكانة دائمة ومرموقة. وهذا ما قدمه الكاتب كحل حينما هاجرت مع بطل الرواية إلى فلسطين وحُفظت هناك. وهنا تبرز رؤية الصهيونية في ألا مستقبل لليهودية إلا من خلال حفظ الماضي اليهودي، والدولة هي الضمان الوحيد لذلك.
وأخيرًا هناك شرعنة الاحتلال، حيث لا يغيب عن ذهن الكاتب مسألة تبني فكر الصهيونية لشرعنة الاستيلاء على أرض فلسطين، وذلك من خلال حديث بطل الرواية مع ابنة عمه عن خطة الصهيونية في شراء أرض فلسطين الزراعية من السلطة العثمانية، إذ يلمح إلى أنّ فلسطين مجرّد أرض زراعية فارغة. فلا يشير الكاتب مطلقًا إلى الاحتلال البريطاني لفلسطين، ولا لمقاومة الفلسطينيين للهجرة الصهيونية أبدًا في تلك الحقبة، رغبةً منه في تغييب أصحاب الأرض تمامًا، إذ تبدو فلسطين في الرواية من خلال الهجرة الأولى لبطل الرواية في بدايتها والهجرة الثانية في نهايتها ساكنة تترقب عودة اليهود إلى أرض أجدادهم. وفي ذلك يتبنى الكاتب السردية الصهيونية القائلة بأنّ فلسطين أرض بلا شعب، وأنّ اليهود شعب بلا أرض.
قراءة في رواية "رجس"
تدور أحداث الرواية حول شاب في الخامسة عشر من عمره حاول مع قريبه اجتياز الحدود إلى أراضي دولة معادية، فسُجن الاثنان هناك ستة أشهر. ثم جرى تسليمهما بصفقة تبادل إلى دولة البلد الذي حاولا الهرب منه بزعم أنّه موطنهما، ليسُجنا ثانيةً لخمسة أشهر بتهمة التجسّس لصالح العدو. رواية "رجس" أشبه بسرد ذكريات للكاتب، يروي فيها مغامرته للهرب من إسرائيل إلى لبنان سيرًا على الأقدام مع ابن عمه الذي يكبره بسنتين. وفترة السجن التي قضاها هناك، ثم فترة السجن التي قضاها في إسرائيل، والتعذيب الذي تعرّض له في أقبية المحكمة العسكرية هناك.
يقول سمير نقاش في حوار مع جريدة الشرق الأوسط بأنّه يكتب للإنسانية، لكنه في الوقت ذاته يكتب عن بيئة يعرفها. وهذا ما يبدو عليه الأمر في الرواية، إذ يغيّب الكاتب أسماء الأماكن عن قصد، كي يعطي لروايته بعدًا إنسانيًّا في ما وراء السياسة والحروب. فتحضر لبنان وإسرائيل من خلال أسماء الإشارة "هنا وهناك" أو تورية من خلال تسميتهما "هذا الطرف والطرف الآخر". لكن الكاتب يتقصد ترك إشارات واضحة للقارئ عن البيئة المكانية التي تدور فيها الأحداث. فتشكل أقبية الأمن العام اللبناني المادة المكانية للفصل الأول في روايته، ثم يعيد استحضارها لاحقًا بمناسبات متفرقة لغرض المقارنة مع سجن المحكمة العسكرية وأقبية التحقيق في إسرائيل، والتي تشكل المكان الرئيسي في الرواية. فقط العراق يحضر بمسميّاته الطبيعية، حينما يشير إليه وإلى الأماكن التي سكن فيها هناك. لكن العراق هنا لا يحضر كمكان، إنما كفضاء ذاكراتي يجلبه الكاتب كملجأ له للهرب من التعذيب الذي يتعرّض له في أقبية المحكمة العسكرية في إسرائيل.
لم يستخدم سمير نقاش العبرية في كتاباته، ولم يكتب بلغة سوى العربية، وفي ذلك رفض لأهم أداة من أدوات القومية اليهودية التي تعمل الصهيونية على ترسيخها
أما بالنسبة للزمان، فهناك أزمنة عدة تتشابك فيما بينها في الرواية. زمن الأحداث وهو نهاية خمسينيات القرن العشرين، خلال فترة الهدنة الأولى بين العرب وإسرائيل بعد حرب 1948. حيث يدور الحديث عن هدوء الحدود والجبهات، مع بقاء حالة العداء بين الطرفين. والزمان الشخصي لبطل الرواية، وينقسم إلى ماضي طفولي جميل وحاضر قهري ومعاد، "الماضي يزاحم الحاضر، ماضيّ أنا وحاضر أولئك".
لم يستخدم سمير نقاش العبرية في كتاباته، ولم يكتب بلغة سوى العربية، وفي ذلك رفض لأهم أداة من أدوات القومية اليهودية التي تعمل الصهيونية على ترسيخها. وظلّت اليهودية بالنسبة لنقاش دينًا يؤمن به وليست قومية. أمّا العربية فهي قوميته التي ينتمي لها، وهذا ما يبدو واضحًا في الرواية حينما يربط مصيره بمصير السجين العربي المسلم محمد، ويؤنبه على استكانته أحيانًا. كما يرى الكاتب على لسان بطل الرواية أنّ الصهيونية هي مجرّد أفكار قومية تتصارع مع بقية القوميات، وفي صراعها هذا تحتاج لوقود. هذا الوقود هو العنصر البشري اليهودي والأيديولوجية التي تتمثل بفكرة أرض الأجداد والنور، وضرورة إحياء الماضي المقدس تحقيقًا للوعد الإلهي بالمستقبل الأبدي. يقول الراوي: "تستعر القوميات وهي بحاجة إلى وقود". ويحضر تمثيل حرب القوميات من خلال أنسنة الصراع العربي الصهيوني، وإخراجه من إطار الذاكرة الدينية اليهودية. يتبدى ذلك من خلال تفاعل الشخصيات وتقابلها في السجن. محمد السجين العربي المسلم الذي يقضي وقته في تنظيف حمامات السجن، ويرفض تقديم طلب استئناف للمحكمة، لأنّه يظنّ أن ذلك لن يغيّر شيئًا، فهذا قدر الله وعليه أن يستكين ويستسلم له. الخفير يوسف وهو يهودي عربي، يشعر بالذنب لأنه يؤدي هذه المهمة الظالمة لكن لا خيار لديه، فهو لم يجد عملًا آخر ليطعم أطفاله. ولذلك فهو يتعامل مع السجناء بلطف. ثم المحقّق العريف كوبي وهو شخص ظالم ومغرور ومعتد بالقوة الممنوحة له، ويلمح الكاتب إلى أنّه مهاجر من شرق أوروبا. وأخيرًا، هناك الضابط الأشقر صاحب الأعين الزرقاء، والذي يقرّر كلّ شيء يجري هناك. وهناك أيضًا شخصيتان ثانويتان متناقضتان تمثلان الانتهازية والسذاجة البشرية، الأوّل شرطي يدعى إسحاق ينحاز لابن عم بطل الرواية لكثرة البنات في عائلته، والثاني كرجي الساذج، والذي كان يعمل في العراق مديرًا لمحطة قطار، لكنه يعمل في إسرائيل بالتنظيف، وهم يحاولون إقناعه بأنه يجب أن يكون سعيدًا بذلك، لأنّه في هذا العمل يخدم أولياء الله.
ترفض رواية "رجس" أفكار الحركة الصهيونية وتحاكي هذه الأدوات بوصفها وقودًا لخدمة طموح السياسيين الذين اختلقوها من مزاعم لغوية وتاريخية ودينية
في الرواية أيضًا تشتبك الذاكرة اليهودية مع الذاكرة الإسلامية، ويرمز لذلك من خلال تهمة تهريب الساعات المسندة إلى محمد الذي يقضي عقوبة كبيرة لا تتناسب أبدًا مع جرمه. محمد نفسه لا يفهم كيف يقضي عقوبة كبيرة لأجل تهريب ساعات لا تعمل، لكنه يبرّر ذلك بالحكمة الإلهية. وحدها المحكمة العسكرية الإسرائيلية يقظة لخطورة هذه الساعات، فهي ترمز إلى الذاكرة الإسلامية المعطلة حاليًا عن العمل. يرفض نقاش فكرة الأرض المقدسة، فبالنسبة له هذه الأرض أصبحت مدنسة بالدم البشري الذي يُراق لأجلها، وهي مثلها مثل أي أرض أخرى يتبوّل الإنسان عليها. كما أنّ فلسطين بالنسبة له ليست أرض النور، كما تزعم الصهيونية، بل هو نور وهمي وليس إلهيًا، أشبه بعود ثقاب يشعل سيجارة ودخانها يحجب صفاء الأشياء ويجعل الحقائق ضبابية. كما يرفض نقّاش تفسير الصهيونية للزمن اليهودي بالماضي المقدّس الذي يجب إحياؤه من خلال الحاضر والمستقبل اليهودي، فيقول على لسان بطل الرواية: "الماضي يزاحم الحاضر، ماضيّ أنا وحاضر أولئك… وكم كنت صادقًا حينما تحاشيت استباق الزمن".
وأخيرًا، فإنّ نقّاش لا يرفض أفكار الصهيونية فحسب، إنّما يرفض فكرة القومية من الأساس، وهذا ما يعبّر عنه في نهاية الرواية: "تعالوا نلجأ للأمم المتحدة. نحن أناس لسعتهم حرب القوميات النكراء. ليكون موطننا هذا العالم".
الجدل الاجتماعي اليهودي حول الصهيونية في الأدب
من خلال تحليل روايتي "إلى هذا اليوم" ليوسف عجنون و"رجس" لسمير نقاش، نجد أنّ الأدب اليهودي هنا يعكس بشكل واضح الخلاف حول الصهيونية بين المجتمعات اليهودية المختلفة. ففي الرواية الأولى يظهر الخلاف بين المجتمع اليهودي الشرق أوروبي المتبني للصهيونية بقوة من خلال شخصية بطل الرواية نفسه وابنة عمه التي تحلم بالهجرة إلى فلسطين. كلاهما قادمان من أوروبا الشرقية، ولم يحظوا بفرصة جيّدة للعيش في ألمانيا. أما الدكتور ميتل، وهو أيضًا يهودي مهاجر من أوروبا الشرقية، ويعيش حياة جيّدة ومستقرة في ألمانيا منذ فترة طويلة، فيبدو غير داعم للصهيونية وغير رافض لها في الوقت نفسه. ثم المجتمع اليهودي الألماني نفسه، والذي عاش واندمج نسبيًّا في الحياة الألمانية، ويبدو أنّه رافض للصهيونية في تلك الحقبة التي تتحدث عنها الرواية، أي فترة الحرب العالمية الأولى، ويظهر ذلك من خلال اتهام بطل الرواية لليهود الألمان بالاستعلاء على اليهود الشرقيين من جهة، وبأنّهم فقدوا جذورهم اليهودية.
أما رواية "رجس" فتتحدث عن مجتمع يهودي عربي فُرضت عليه الصهيونية. فبطل الرواية يعيش حياة كريمة مع أهله في العراق إلا أنّ الاحتلال الصهيوني لفلسطين أدى إلى اندلاع موجات عنف ضد اليهود في بلاده وتخريب ممتلكاتهم، وتسبّب ذلك في اعتقال عشوائي لشباب يهود وتعذيبهم بتهمة دعم الصهيونية، ما أجبر عائلته على الهجرة إلى إسرائيل مع آلاف اليهود العراقيين. في السجن يلجأ بطل الرواية إلى ذاكرته التي تحاكي شخصيات يهودية عدّة كانت سعيدة في العراق، ولم تكن تفكر بالهجرة إلى إسرائيل. العراق، بغداد وبعض المناطق القريبة منها، يسميها بطل الرواية بمسميّاتها، أمّا بقية الدول والمناطق التي هاجر إليها، فيشير إليها بأسماء الإشارة. هي ليست موجودة في حياته، وإن كان يعيش فيها مجبرًا. وأخيرًا يبدع الكاتب في إحضار الاستعمار الأوروبي الغربي الذي قسّم البلاد وفرض على أهلها كلّ شيء من خلال شخصية الضابط الأشقر صاحب العينين الزرقاوين، فهي شخصية حاضرة وغائبة، تقرّر وتدير كلّ شيء في السجن، وهي تخفي مطامعها وأنانيتها من خلال إظهار المثالية. فقد كان الضابط الأشقر يعتني بكلبه ويعطف عليه وفي الوقت نفسه كان يستمتع بتعذيب البشر وإذلالهم.
خاتمة
تتفق الروايتان بأنّ الصهيونية حركة سياسية تدعو إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. إلا أنّ رواية "إلى هذا اليوم" تتبنى أفكار هذه الحركة بشدّة بوصفها الخلاص، وتتهم كلّ من يرفضها بالأنانية والتخلّي عن الأصل والجذور. كما تصوّر الرواية أدوات الصهيونية المتمثلة باللغة العبرية، والتصور الديني اليهودي عن فلسطين، ورفض الانتماء إلى البلاد التي تعيش فيها المجتمعات اليهودية حول العالم على أنّها عناصر أساسية لهذه القومية. أما رواية "رجس" فترفض أفكار الحركة الصهيونية، وتحاكي هذه الأدوات بوصفها وقودًا لخدمة طموح السياسيين الذين اختلقوها من مزاعم لغوية وتاريخية ودينية.