لؤي الألماني يلهو ويمرح في إدلب

31 مايو 2022
+ الخط -

دونتُ الحديثَ الذي دار بيننا بالواتس أب، أنا وأبو صالح، في "إمتاع ومؤانسة" بصحيفة العربي الجديد، يوم 23 مايو 2022. تطرقنا، وقتها، إلى الجانب الحزين من شخصية ابن عمتي لؤي، المتمثل باعتقاله وتعذيبه، أيام الوحدة مع مصر، بشبهة الانتساب إلى الحزب الشيوعي. وقلت:

- ولكنني اكتشفتُ لك، يا أبو صالح، أن لؤي رجل خفيف الظل، قادر على تحويل همومه وآلامه إلى مواقف مضحكة، وله هواية عجيبة تتلخص بمصاحبة الأشخاص الذين لديهم لَوثات عقلية. وأظن أنه لم يكن قادراً على إظهار مواهبه المرحة في أثناء وجوده في فرانكفورت. فالشعب الألماني جاد، ومنظم، وينام باكراً في أيام الدوام، ولا يقترب من دوائر المرح واللهو والضحك إلا في أيام الآحاد. وقد عبّر الكاتب الروسي العظيم "دستويفسكي" عن جدية الألمان بنكتة ملخصها أنك إذا حكيتَ للمواطن الألماني نكتة، يُخرج من جيبه ورقة وقلماً، ويدونها في دفتر خاص، من أجل أن يقرأها ويضحك عليها يوم الأحد! وهناك سبب آخر.

- ما هو؟

- لا يمكن الشعب الألماني أن يضحك على نكتة من إنتاج بيئة أهل إدلب، لأنه قد لا يفهمها، وإذا فهمها قد لا تُضحكه، لأنها لا تتناسب مع ثقافته وتركيبته النفسية.

- عفواً أبو مرداس. هل لديك مثال؟

- طبعاً. الأمثلة كثيرة. أنت تحكي للألماني، مثلاً، قصة الرجل الإدلبي الذي يسهر كل ليلة في مضافة الآغا مع أصدقائه الرجال، وذات مرة اعتذر لهم عن عدم المجيء إلى السهرة، لأنه يريد أن يذهب مع زوجته في زيارة عائلية لأسرة أبيها، فلم يقبلوا اعتذاره، وصاروا يتهمونه بأنه (خروق، وتَشتوش)، ومحكوم لزوجته، ثم هددوه إذا هو لم يأتِ إلى المضافة سيجعلونه يندم حيث لا ينفعه الندم، فلما أصرّ على الغياب في هذه الليلة، قالوا له: طيب. سنريك ما نحن فاعلون.

وذهبوا خلفه باتجاه داره خلسة، ونصبوا له كميناً، حتى إذا تأكدوا من خروجه مع زوجته من البيت، استأجروا رجلاً يعمل في البناء (معماراً)، وسيارة شاحنة صغيرة، وأحضروا حجارةَ بناء، وإسمنتاً، ورملاً، وشرعوا ببناء جدار ضمن فتحة باب داره، حتى أُغلق البابُ تماماً، وبعدها أحضروا كلساً أبيض، وطرشوا الجدار الجديد حتى أصبح كما لو أنه امتداد للجدار، ولم يبق أي أثر للباب. وتابعوا كمينهم للرجل، حتى عاد هو وزوجتُه من السهرة، ووقفوا يتفرجون عليه من بعيد، وكيف أنه لم يجد داره في مكانها، ويقول لزوجته مرعوباً: "يا لطيف. وين صارت دارنا؟"! المهم أنه لم يكتشف المقلب حتى سمع صوت قهقهاتهم تتعالى من حيث كانوا يكمنون.

قال أبو صالح: بصراحة؟ أنا أقدر موقف عمتك. الحق معها. وأين كان لؤي طوال هذه المدة؟

- أبو صالح: والله إنها قصة رهيبة.

- طبعاً. والألماني الذي تحكي له حكاية كهذه، لا ريب سيكون مذهولاً، ويسأل راويها أكثر من عشرة أسئلة، من قبيل: كيف يسهر الرجال في بلادكم وحدهم دون نسائهم؟ ثم لماذا لم يَقبل الذين يسهرون في المضافة اعتذار الرجل؟ وما المانع في أن يخصص الليلة للسهر مع زوجته؟ وكيف أقدم أصدقاء الرجل على تشويه مدخل الدار؟ وكيف ستتصرف البلدية عندما ستكتشف هذا التجاوز على المخطط العقاري للمنطقة؟

- قال أبو صالح: ولك أين الجانب الكوميدي عند لؤي؟

- هأنذا أحدثك عنه. قلت لكَ إن لؤي، عندما سافر إلى ألمانيا سنة 1964، بقي سنوات طويلة لا يأتي إلى إدلب، ربما بسبب العقدة النفسية التي خلفها له الاعتقالُ في أيام الوحدة 1959، ولكنه صار يأتي، اعتباراً من منتصف الثمانينيات، في زيارات طويلة، قد تمتد الواحدة منها إلى ستة أشهر. ولؤي، بالمناسبة، هو الكبير بين إخوته الذكور والإناث، وكلهم يحبونه ويحترمونه، ولذلك لم يكن أحد منهم يلومه على أي فعل يصدر عنه. وهو، بطبيعة الحال، رجل رائق، وكريم، ومتسامح، ولا يترك فرصة لأحد لأن يوجه إليه نقداً أو نصيحة. لكن والدته، الحاجة أم لؤي، كانت مستثناة من كل هذا، فعندما يخرج من البيت، كانت تقلق، وتلحقه عند الباب وتوصيه: انتبه لنفسك. لا تبتعد كثيراً عن الدار. ولا تتأخر. ولكن حب لؤي للضحك، والمزاح، والشخصيات المضروبة عقلياً، كان يجعله ميالاً للخروج، والتجول في الأماكن التي كان يعرفها قبل سفره، غير مكترث بمرور الزمن، ولا بنصائح والدته التي سرعان ما أسماها، بعد أول مشادة بينهما: السجانة.

وفي إحدى المرات، وقعت أم لؤي في شرّ أعمالها، إذ استيقظت في الصباح، فلم تجد من أفراد الأسرة أمامها غير لؤي، فسألته إن كان يعرف "فرن هزبر". فقال إنه يعرفه، فهو بجوار مكتب عمه الحاج فكري لتعليم قيادة السيارات، فأعطته بعض النقود، وطلبت منه أن يشتري خمسة كيلو خبز، ويعود قبل أن تلتمّ الأسرة في فترة الغداء... في ذلك اليوم، يا أبو صالح، استنفرت حارة المساكن الشعبية الجنوبية كلها، نتيجة للقلق الذي ساور الحاجة أم لؤي، فقد مرت فترة الصباح، والظهيرة، والمساء، ولؤي لم يرجع، وما يبعث على القلق أكثر، أن هذه الحادثة وقعت في أوائل الثمانينيات، حيث دوريات المخابرات تملأ الطرقات العامة، وكلما رأى العناصر سيارة عابرة، أو شخصاً، يطاردونه، ويأخذونه ويحققون معه، وكان من عادة المخابرات إذا أوقفوا رجلاً لا يعترفون بوجوده عندهم طوال فترة التحقيق.

- قال أبو صالح: بصراحة، أنا أقدّر موقف عمتك. الحق معها. وأين كان لؤي طوال هذه المدة؟

- في الاجتماع العائلي الذي عقد في دار عمتي، وبالتداول بيننا نحن المجتمعين، استقر الرأي على أن الوجهة الوحيدة التي يمكن أن يكون لؤي قد سلكها (إذا لم يكن قد وقع في أيدي المخابرات) هي بلدة معرة مصرين. ولأنها مسقط رأسي، فقد وقع الاختيار عليّ. استأجرتُ سيارة، وذهبت برفقة شقيق لؤي الأصغر طلحة، وذهبنا إلى معرة مصرين، وخلال ساعتين من البحث والتقصي وسؤال فلان وعلان عن لؤي، عرفنا أنه يسهر في منطقة زراعية غربي البلدة، مع بعض أصدقائه. ذهبنا إلى هناك، وعندما وصلنا بالقرب من شقة البناء التي تتوسط الكرم، تناهى إلى مسمعنا صوت عزف عود وضرب إيقاع (دربكة)، وكان ثلاثة من مهابيل البلد المشهورين يرقصون في الوسط، ولؤي بين الحاضرين يصفق ويضحك وهو في قمة السعادة. دخلنا، سلمنا على الحاضرين، وأنا كنت على معرفة بمعظم الحاضرين بالطبع، وجلست بجوار لؤي، وقبل أن أقول له أي شيء، سألني: السجانة أرسلتكم للبحث عني. صح؟

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...