إخراج أبو لطفي من جحره بخطة محكمة
سيرة الظرفاء (8)
عندما اتصل بي أبو سعيد، البارحة، كان متشوقاً لأن يسمع تفاصيل الرحلة العجيبة التي قام بها أفراد شلة أبو لطفي (السَمْبَتيك) إلى قرية الشيخ صطوف، بدعوة من المختار أبو حافظ.
قال لي: أنا أتوقع أن أبو لطفي سيتهرب من مرافقة أفراد شلته، لأن السفرة لا بد أن تكون شاقة، ولا يوجد فيها، بالنسبة إليه، أي نوع من الإغراء.
- خلو الرحلة من المتعة، بالنسبة لأبو لطفي، أمر مفروغ منه، ولكن لا تنسَ المتاعب والمصاعب المتوقعة، خاصة أننا نتحدث عن أيام الستينيات أو السبعينيات، حينما كانت وسائل النقل قليلة، وقديمة، ومتخلفة. واسمح لي، يا أبو سعيد، أن أسجل هنا ملاحظة أراها مهمة، وهي أن الأمور السهلة، المريحة، الخالية من المتاعب والمشاكل والمخاطر، لا تصلح موضوعاً لقصة، أو حكاية، أو حديث مؤنِس.. فلو قلت لك: سافرنا، وانبسطنا، وكان الطقس جميلاً، والطعام لذيذاً، وعدنا بالسلامة، ستقول لي: طيب أين المشكلة؟ أو: أين العبرة؟
وهناك شيء آخر، هو أن الجَمَال الذي تجده في أية قصة، له علاقة بالراوي، بمعنى أن القصة نفسها، تسمعها من شخص غير موهوب، عنده نوع من التأتأة والفأفأة، فتتمنى أن (تنتهي القصة على خير)! وتسمعها من راو ذكي، محنك، يجيد السرد، والتقطيع، ومعرفة مناطق الإثارة والتشويق، فتستمتع، وتبتهج، وتتمنى لو أن هذا الراوي يستمر في سرد الحكاية زمناً أطول، أو أن يروي لك حكاية أخرى.. وهذا ما حصل معي، حينما سمعت تفاصيل الرحلة من أبو نعمان، فهو، للأمانة، حكواتي بارع.
المهم؛ قال أبو نعمان، إن إخراج أبو لطفي من (جُحره)، واقتياده إلى قرية الشيخ صطوف، لم يكن سهلاً، فأبو عبدان، أحد أفراد الشلة، كان قد وعد الأصدقاء باستخدام طريقة صَيَّاد الضِباع (الطَفَّاش) في إخراجه، يوم الخميس المتفق عليه، وقد نَفَّذَ الخطة التي رسمها، بدقة، إذ طلب من زوجته، أم عبدان، وهي موظفة في البلدية، أن تتصل بأم لطفي، مساء الأربعاء، وتُخبرها بأن حضور أبو لطفي إلى مديرية الاستملاك في مبنى البلدية، عند الساعة الحادية عشرة بعد الظهر، ضروري جداً، ليوقّع على معاملة استملاك الأرض المُعَدَّة للبناء، المسجلة باسم المرحوم "لطفي الداروجة"، والد أبو لطفي، ليصبح من حق الورثة قبض مبلغ 500 ألف ليرة سورية خلال أسبوع واحد من تاريخ التوقيع، وأكدت لها أن هذه آخر فرصة، فإذا لم يحضر أبو لطفي ستَعتبر البلديةُ الأرض مشاعاً، وتستملكها مجاناً، فيخسر الورثة هذا المبلغ الضخم!
ضحك أبو سعيد وقال: هذه الخطة تجعله يخرج من داره بسرعة البرق، فمما عُرف عن أبو لطفي أنه يحب المال بشكل غريب.
- نعم. المهم؛ خرج أبو لطفي في حوالي العاشرة والنصف، ومشى من داره باتجاه الشمال، حيث مبنى البلدية، وفي أول منعطف، وجد سيارة أجرة يقودها أبو برهو الصجّ، وأفرادَ الشلة كلهم جالسين فيها، عدا أبو عبدان الذي كان يكمن له بجوار الحائط، وما إن رآه حتى ألقى عليه القبض، وسحبه من يده مثل خروف العيد، وأصعده إلى السيارة. وخلال أقل من دقيقة، استوعب أبو لطفي أنه وقع في كمين، وأن الذهاب إلى قرية الشيخ صطوف بات أمراً لا مفر منه، لذا بدأ يتحدث بطريقته التي تبدو جدية، ولكنها مبطنة بالسخرية والتهكم، فقال إن بعض الرجال، وهو واحد منهم، لا يعرفون أين تكمن مصلحتهم، ولذلك يحتاجون إلى أصدقاء مُخلصين، يساعدونهم على أنفسهم، ويأخذونهم إلى أماكن الخير والجمال.. وأشاد، بشكل خاص، ببراعة الصديق أبو عبدان في الكذب، والتمثيل، وأكد أن لأبو عبدان ميزة استثنائية أخرى، وهي أنه لا يحب أن يكذب وحده، فسخر زوجته المحترمة، أختنا أم عبدان، لتكذب معه، ويبدو أن أختنا أم عبدان مدربة على الكذب هي الأخرى، فاستغفلت أم لطفي، وضحكت عليها بحكاية الأرض، ومديرية الاستملاك، والبلدية.. وأنا، يا شباب، على كل حال، أؤيد هذا النوع من الكذب، فهو ضروري، ونافع، فلو لم يكذب أبو عبدان والسيدة حَرَمُه، لما عرفتُ، أنا أبو لطفي، أن مصلحتي تقتضي أن أقدم على ركوب المخاطر وأقطع السهول والوديان، حتى أصل إلى مضافة الأخ أبو حافظ، وآكل كراديش اللحم، وأشرق شنينة اللبن العيران، وبهذه المناسبة أقول: نحن كلنا يجب أن نفرح بزواج حافظ ابن أبو حافظ، ونبتهج، فتخيلوا، لو بقي ذلك (اللوح) أعزب، كم سيلحق بنا، نحن الذين نعيش في مدينة إدلب، من ضرر! ثم إن الزواج، في بلادنا، أمر نادر، وهذا هو السر في أن الناس عندما يتزوجون يفرحون، ويدبكون، ويقوصون في الهواء..
بينما كان أبو لطفي يتحدث كان أفراد الشلة يضحكون ضحكات مليئة بالشماتة. وقال أبو نعمان:
- أنا أعرف أن أكثر ما يُفرح أخانا أبو لطفي، ليس زواج حافظ، ولا كراديش اللحم، وإنما سيفرح ويشقرق حينما يرى صديقَنا "أبو سليم" وهو يأكل بشراهة.
التفت أبو لطفي إلى أبو سليم، وقال له:
- نعم، أبو نعمان يقول الحق، وأنا أعرف أنك لا تأكل كثيراً إلا إذا كنت تحب الشخص الذي دعاك إلى الطعام، وأنا متأكد من أنك ستأكل الأخضر واليابس من فرط حبك لأبو حافظ، وولدِه العريس المحترم حافظ، لأن المثل يقول: الأكل على قدر المحبة. على كل حال، أرجو منكم، قبل أن ينطلق موكبنا المظفر باتجاه الشيخ صطوف، لنتمتع بأكل الخواريف المحشوة بالأرز والصنوبر، أن تسمحوا لي بأن أدخل إلى الدار، لأخبر أم العيال بأنني ذاهب في هذه الرحلة المباركة، وأودعها، فقد نموت في حادث، أو من كثرة الأكل، أو من فرط السرور.
قال أبو عبدان: عفواً، أبو لطفي، أنت ممنوع تدخل إلى الدار، لسبب واحد، هو أنك إذا دخلتَ ستغلق الباب، ولا يعود إخراجك منها ممكناً حتى لو كذبنا عليك نحن ونساؤنا جميعاً.
وقال للسائق: إذا سمحت، دعنا نمر بداري.
وراح يشرح لهم أنه سيطلب من زوجته أم عبدان أن تتصل بأم لطفي، وتعتذر لها عن الكذبة التي كان لا بد منها لإخراج زوجها المحترم أبو لطفي من جحره.
وهكذا، يا أبو سعيد، ابتدأت الرحلة التي سأحدثك عنها في اتصالك القادم.