كيليطو والتراث العربيّ الكلاسيكي
عموماً، وقبل البَدْء، علينا أن ندركَ، ما أخبرنا به أستاذُنا يوما، أنّ التراث في حدِّ ذاته إشكال، فإنْ لم نتصوّره كذلك، فنحن لسنا قرّاء، لسنا مؤولين، نبحث عن المعنى الضائع.
لا شك، أنّ كتب التراث بالنسبة للكاتب والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو ميدان ينطلق منه من أجل كتاباته العصريّة، فهو يدرسُ التراث العربيّ ليفهم نفسه وذاته؛ فالأدب العربي يحتاج كيليطو بقدر ما يحتاج الأخير ذلكم الأدب. ولبورخيس عبارة تقول: "الكاتب يخلق أسلافه". وقياسا عليها، سأعتبر أن كيليطو يخلق التراث العربي ويعيد إحياءه من جديد.
تخيل مرّة، أن تعيش داخل لوحة فنية، ستقضي حياتك متأملا تفاصيلها الداخلية، سترهق، ستبالغ في كل خط رسم وفي كل لون وضع، ستركز على جزء دون آخر، وهكذا؛ سينتهي بك المطاف إلى الغرق في التفاصيل دون إدراك أشكالها الجمالية. ومثل ذلك؛ أن تقفَ قريبا من التراث القديم، فحتّى نرى التراث العربيّ ونفهمه لا بدّ من أنْ نعلم (وكما يقول كيليطو) إن: "مؤلفات الماضي لا تقتربُ منّا؛ إلا إذا قمنا بإبعادها عنا" فابتعد نسبيا، حتى ترى الجمال، يقول الفيلسوف الفرنسيّ أوغست كونت: "لا يمكنُ أن نعتلي الشرفة ونرى أنفسنا مارين في الشارع، في الوقت ذاته".
نجدُ أصحاب القراءات التأصيلية يقعون في فخّ الاقتراب المباشر من النصوص القديمة، فمنهم، مثلا، من يعتبر الرواية فنا ذا أصل عربي، وحجتهم في ذلك احتواء المقامات على عناصرِ الرواية (المكان، الزمان، الشخصيات، الحدث...)، إن هذا الادعاء، قدْ يُردّ إلى ولعِ العرب برد كل مستحدث إلى قديمهم، إذْ ينبهنا كيليطو إلى تلكم القضية، وهي عدم الحكم على نصوص كلاسيكية بمعايير عصريّة، فعلينا أن نعتبر كل جنس أدبي، "نسقا دنيويا بالضرورة"، كما يجدر بنا أن نتعامل مع الأدب الحديث بشيء من الانتباه، فقد يلجأ باحث إلى الانطلاق من ثقافة غربية، لاوِيا عنقها لتتلاءم مع الثقافة العربية، إن هذا الأمر فيه شيء من المجازفة، يقول كيليطو في أحد حواراته: "حين نأخذ جزءا من نظام معرفيّ سابقٍ ونقارنه بجزء من نظام معرفي جديد، فإننا نرتكب خطأ فاحشا".
دراسة النصوص من منطلق التأويل، وطرحِ الإشكالات حولها، يساعد كثيرا في تعددية المعاني ضمن إطار المَعقوليّة
يحدثنا كيليطو في مؤلَّفه "الأدب والغرابة" عن كيفيّة دراسة الأدب العربي الكلاسيكي، فلا تكفينا المعرفة المعجمية به، فالعلاقة بين القارئ والنص الكلاسيكي هي علاقة متوترة، إننا بحاجة للاقتراب النسبي من اللغة الكلاسيكية، حتى نفهمها.
لاحظ كيليطو (حسب مخطط اللساني رومان جاكبسون) أن عملية الاتصال عن طريق اللغة تستدعي وجود مجموعة من العناصر، منها: (المتكلم، الخطاب، المخاطب، النسق)، فالمتكلِّم (الكاتب) والمخاطَب (القارئ) يمتلكان نسقا مشتركا في عملية التواصل، حيث يكون الرابط بينهما هو الخطاب (اللغة)، فإذا بتِر هذا النسق، فلن يتمكن المخاطب من فهم المتكلم، ومن ثم ستفشل عملية التواصل. وعليه؛ نجد أن هناك فجوة بين المتكلم والخطاب، لأننا عادة ما نهمل دور المخاطب، في أي عصر هو؟ كم يبعد الخطاب منه؟ ما تصوّراته حول الخطاب؟
كل هذه الأسئلة، تعتمدُ في إجابتها على تأويل القراء للنص، فالقارئ هو الذي يعجن النص، بما يتوافق مع تصوراته الذهنية التي يريدها، ولعلَّ هذا ما تحدث عنه كيليطو مرّة، وهو تشبيه القارئ ببروكوست، حيث كان الأخير قاطع طريق يوناني يعذب المسافرين، بوضعِ طوال القامة على فرشة صغيرة وتقطيع ما زاد من أجسادهم، ومدّ قصار القامة على فرشة كبيرة. وكل ذلك؛ حتى ينسجم القارئ مع التأويل الذي يفترضه، فإذا اعتبرنا القارئ بروكوستيا، فإننا سنعتبره عدوّا للنص، فالعلاقةُ بين الكاتب والقارئ هي علاقة عداء، يُمثِّل كيليطو تلكم العلاقة بحديث الجاحظ في مؤلفاته، حيث نجدُ عند الأخير عباراتٍ ودودةً، تستدرجُ القارئ وتستميله: "حفظك الله، أكرمك الله، جُعلتُ فداك..".
ما أحوجنا إلى دراسة التراث دراسة بعيدة من التأصيل الذي يلقف به الأدب العربي، وتراثه على وجه الخصوص. التأويل علم يفتح آفاقا واسعة، هذا إن أُحسن الفرض بالدلائل التي تتفقُ مع القرائن، فدراسة النصوص من منطلق التأويل، وطرحِ الإشكالات حولها، يساعد كثيرا في تعددية المعاني ضمن إطار المَعقوليّة، فالمعنى إن لم يبن على تأويلات؛ يقيّد ويخضع للقصديّة، كما أنّه يصنع تحيّزا، وهذا خطير، لو يدرك!