استهدافُ القارئ أم قتلُ المؤلف؟
لا شك في أنّ عمليتي القراءة والكتابة استراتيجيتان تحتاجان إلى ترسانةٍ حربيّة لإذكائهما، فحتى نفهم هاتين العمليتين، سنتصوّر في هذا المقال المؤلف والقارئ عدوّين يسعى كلّ منهما إلى الانتصار على الآخر.
نجد عند العرب عبارة: "من ألَّف فقد اسْتَهْدَفَ"، فلو اعتبرنا أنّ تلكم القولة استعارة حربية، سنلحظ أنّ الاستهداف دال يحيل على الحرب؛ وبذلك يكون التأليف عملية عسكريّة، يتمثل في العلاقة بين المؤلّف والقارئ، وعليه؛ يكون الأول صاحب خطاب سلطوي يستهدف الأخير، فإذا قلنا إن حضور المؤلف في النصوص القديمة جعلته يمارس سلطة فعلية على القارئ؛ فسيكون الأخير تمثالاً صامتاً لا يمكنُه الفِكاكُ من ربقة المؤلِّف وأُقنومه، فحتى نفهم المؤلف بوصفه عدواً يريد استدراج القارئ، وتجييشه في صفوفه الفكريّة، سنعتبرُ أنَّ شَأْوَ المؤلِّفِ، جعلُ القارئِ مستهدفاً، وبذا؛ تكونُ فرصةُ المؤلف للانتصارِ في الحرب أكبر. وبكون أي علاقة عدائيّة هي علاقة متبادلة بطبيعتها بين الطرفيْن (ونعني هنا المؤلف والقارئ)، وبما أنّ المؤلف عدو للقارئ، فقلب العبارة الأخيرة كائن بالضرورة.
يقولُ عبد الفتّاح كيليطو في أحد مؤلّفاته: "إذا كان الناس كلهم أعداء الكاتب. فهل الكاتب من جهته عدو الناس كافةً؟ على الأقل، يعرف أنه محل ريبة لمجرد أنه يكتب، فكأنه مقترف لذنب يجب التكفير عنه، ولذلك؛ تراه يتودد إلى القراء ويفاوضهم سعياً منه إلى استمالتهم وإضعاف شوكتهم وإبطال كراهيتهم. ولا أعرف مؤلّفاً اهتمّ بالقارئ العدوِّ كما فعل الجاحظ، فهو يشركه في مشاريعه ويدعو له (حفظك الله) (أكرمك الله). وفي كل لحظة يلتفت إليه ليتأكد من انتباهه ويذكي اهتمامه".
إنّ هذه العلاقةَ العدائية، التي تتمثَّل في استمالة الجاحظ لقارئه العدو، تجعلنا نفترض أنّ ما يقوم به الأوّل هو خدعة حربيّة، فحتّى يقع القارئ في شباك المؤلف، على الأخير أن يكون خبيراً عسكرياً، باتّباعه أساليب الكرّ والفرّ والمناورات، فيسعى إلى التودد إلى القارئ وإغرائه، كما أنه ليس من الضّرورة نجاح تلكم الأساليب، فالمؤلِّفُ، عموماً، يفترض قرّاء قبل شروعه بالتأليف، فليس جميع القراء نموذجيّين (حسب مصطلح إمبيرتو إيكو) كما أنهم ليسوا افتراضيين دائما. وكلّ ذلك يعتمد على التصوّرات الذهنية للقرّاء ومدى اختلافها بينهم.
كما نجد في النقد الحديث مصطلحاً بارتيّاً مهماً، ونعني "موتُ المؤلف"، حيث كان ذلكم المصطلح وليد فلسفاتٍ ارتبطت بفكرةِ النهائيّ، كما حصل عند الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشة الذي جاء بمصطلحِ "موت الإله"، إذ اعترف بموت الإله من خلال اقتراف نيتشة جريمةَ القتل، يقول: "مات الإلهُ ونحنُ مَنْ قتلناه".
حتى يقع القارئ في شباك المؤلف، على الأخير أن يكون خبيرا عسكريا، باتّباعه أساليب الكرّ والفرّ والمناورات، فيسعى إلى التودد إلى القارئ وإغرائه
فلو افترضنا أنّ الحرب قد شب ضرامها ووصلت أوج هيجانها بين القارئ والمؤلِّف، فسيسعى الأول إلى قتل الأخيرِ، وبذا؛ ستكون عمليّة الانتصارِ لصالح القارئ، الذي يتبع استراتيجياتِ التأويل والنّظريات النقديّة الحديثة، فصار القارئ يسعى إلى التخلص من هيمنة المؤلف وحضوره السلطوي في النص.
ولمّا كان التأويل سلاحاً فتّاكاً يمتلكه القارئ، صار لزاماً التعامل مع ذلكم السلاحِ بانتباه، حتى لا يتم الوقوع في فخاخٍ لم تكن في الحسبان. وبما أن القارئ ليس حرًّا، ولا يحق له أن يُقوّل المؤلف ما يشاء، فإنّه إن فعل؛ ستعم الفوضى الفكرية وسنواجه أخطاراً تتعلق بالفارق الزمنيِ بين المؤلف والقارئ، على حدّ تعبيرِ المفكر المغربي، عبد الله العروي.
وبشيءٍ من الاستزادة؛ لو أردنا أن نعرض تصوّر الفيلسوف الفرنسي الراحل، ميشيل فوكو عن المؤلفِ، سنَلْفي أنّ فوكو يتحدثُ عنه كشيءٍ لا وجود له، وذلك حين رفض عقلنة المؤلف في مقاله مستخدماً "ما" للسؤال عن المؤلف (ما المؤلف؟). أضف إلى أنّ فوكو يعتبرُ التأليف وسيلة للموت من أجل خلود المؤلف كما في الملاحم الإغريقيّة، حيث كان البطل يعرِض حياتَه للموت من أجل الخلود، بينما في الشرق نجد علاقة قص شهرزاد على شهريار حكايات ألف ليلة وليلة، مرتبطة بالموت. وباعتبار الملاحمِ الإغريقيّة حروباً في أصلها، وبكون علاقةِ شهريار مع شهرزاد علاقة عدائيّة مضمرة، ننتقل من لفظة الموت إلى لفظة القتل.
من المسلِّم به أن تنتهي الحرب بنصر أو خسارة أو ربّما هدنة، فإذا ملّ القارئ من قراءة مؤلَّف ما؛ فإنه سينسحب من الحرب، وبهذا؛ سيخسر المؤلِّف قارئاً لدوداً؛ وبما أنّ الفيلسوف الأميركي، جورج لايكوف لا يعتبر الشيء خسارة إلا إذا كان شيئاً نافعاً للطرف الآخر، وبالمثل؛ فإن القارئ العدوّ يجلب المنفعة للكاتب. ولهذا؛ على الكاتب حتى ينتصر الجمع بين استراتيجيتي النّقد والإبداع في الكتابة لاستهداف القارئ، وعلى الأخيرِ حتى ينتصر أيضاً، أن يقتل المؤلف؛ إن عرف القارئ أنّه سيكون ضحيّة، أي: مستهدفاً!