كابوس في زنزانة الذاكرة!

03 سبتمبر 2024
+ الخط -

اليوم قضَّ مضجعي نداءٌ من بعيد، خلتُ نفسي مكانهم في كابوسٍ على وشك اليقظة، ثم وجدتهم ينادوننا، وهم في ظُلماتِ السجون والذاكرة، في موضعٍ بعيدٍ من الأفكار، في زنزانةٍ صخريّةِ الجدران، لا أحد يسمعهم، لا أحد يراهم، لا أحد ينقل عنهم، فلم يكن هناك حلّ إلّا أن يُزَجّ بي معهم، فأذكرهم، وقد كنت معهم بجسمي ذات يوم، لكن الفارق أنّي خرجت، تحرّرت، سافرت، أقمت، درست، توظّفت، تزوجت، وهأنذا في حياتي لا يكبّلني قيدٌ، ولا يحجزني سورٌ، ولا ينادي اسمي كلّ يومٍ سجّان.

عشراتُ الآلاف ممّن لم يروا نور الشمس منذ أيّام، وأشهر، وسنين، ودخل بعضهم في العقود، فأتمّوا العقد الأوّل من السجن، ودخلوا عقده الثاني، منذ أحد عشر عامًا ويزيد، ومنذ ما لا يقل عن دهور ولو كان عمرها الحقيقي بضع ليالٍ للمعتقلين الجدد، يسجنهم وغدٌ مجرم، يجلس فوق صدورهم كسرطانٍ في الرئة، فيضيّق نفوسهم وأنفاسهم، حتى تصعد في السماء، ضيّقةً، حرجةً، ومثلهم في الأوطان لم يكن ليملك إلا جنانًا غنّاء وحدائق ذات بهجة.

فزعتُ وضاق صدري وتحجّرت مدامعي، ولا أدّعي أنّي وفيٌّ لهم وهم رفاقي، وإنّما كلّ الذين عاشوا حياتهم طبيعيةً مجرمون في حقّهم، حيث ساعدوا السجّان على أن يكسب رهانه، بأنّ هؤلاء سينتقلون إلى طيّ الكتمان وغياهب النسيان، وسجون الروح أقسى على السجين من سجون الصحراواتِ خلف الأسيجة العالية والأسلاك الشائكة، فغدوا بهمومهم وحدهم، وقد قنطوا من عدّ السنين والشهور، وبعضهم سلّم نفسه إلى فكرةِ قضاء المدّة والخروج، أو يأمل أن يرى النور ذات يوم ولو بشيبةٍ عجوز، وملامح باهتة، وتجاعيد لم تترك من أثر الوجه حديث الاعتقال قبل سنوات طويلة شيئًا، فيخرج ليرى الفتات الذي تبقّى من دنياه، بعدما قضى عمره كلّه يحتسب محنته لآخرته، ولا عزاء له إلّا أنّ الله اختاره لذاك، ليعذّب بحقّه المجرمين حين يأتونه بملايين الجبال من الجرائم والمظالم وأكل الحقوق.

سجون الروح أقسى على السجين من سجون الصحراواتِ خلف الأسيجة العالية والأسلاك الشائكة

أسرى في سجون الاستبداد يُقابلهم أسرى في سجون الاحتلال، على خطٍّ واحد من التضحيّة والرجولة والفداء، والذي يملك مفتاح السجن واحد، إن أخذ عنوةً من هذا أو ذاك، تحرّر أولئك وهؤلاء، وكلّهم أصحاب قضيّة واحدة، هي الحق على اختلاف جغرافيته وظروفه وأسبابه، فما بالك لو كان بعضهم حاضرًا في قلوب بعض، ويدفع بعضهم ثمن السعي إلى نصرةِ بعض، فجمعهم العقاب نفسه من الظالم نفسه، سواء وضع نجمة داوود على كتفيه أو على فخذيه أو حملها في صدره المقزّز.

كثرٌ هم من خانوا أسرى الاستبداد هؤلاء، أولهم أناسٌ من جماعاتهم، قبضوا الثمن أموالًا طائلة وحسابات بنكيّة عامرة وأبّهة في كلِّ روحة وغدوة، وتجارةً بأرواح الكثيرين، الذين كانوا جنودًا مخلصين في معركةِ حقٍّ، لكن بعض الذين تسيّدوهم كانوا عبارةً عن سجانين آخرين، مُتنكرين في لحى بيضاء وثياب مدنيّة لا عسكريّة، لكن في قلوبهم كان كلّ شيء حاضرًا، سوى الله.

لكن ما يُضيرهم وقد خذلهم أهل الأرض لكن نصرهم أهل السماء؟ وما يضرّهم لو كانوا وحدهم لكن الله معهم؟ وما يغصّ حلوقهم وقد نساهم بنو جلدتهم لكنّهم غير منسيين ولو للحظةٍ في ميزان الله؟ هم عبادٌ صادقون، مخلصون، مرابطون على الثغور في وطن يعيش أقذر محنه وأبشع حقبه، والأيّام دول فلن يبقى السجّانة والمساجين في أماكنهم الثابتة دوما، إنّما اقترب الوعد الحق، والثأر المخلص، والانتقام الذي سيبدّل أماكن هؤلاء بهؤلاء، ويرى أسرانا النور، ويعاتبون عتابًا مريرًا، كلّ هؤلاء الذي سجنوهم في سجون الذاكرة. فهل تكون من هؤلاء الذين يعتقلونهم اليوم خلف عقد ألسنتهم؟ أم تحرّرهم لتذكرهم، ولو بلسانك إن ظننت أنّ سواعدك عاجزة؟