في مجالس شيخي الحكيم (2)

05 مارس 2023
+ الخط -

شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أزورهُ بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته.

هو معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أن تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق.

وهنا أوردُ بعضًا مما دار في مجالسه.

(1)

سألتُ شيخي: منْ هم الأقارب؟

فأجابني: منْ كانوا لهمِّكَ أقارب!

***
(2)

سألت شيخي: هل تثق في روايات التاريخ؟

أجاب: روايات التاريخ مؤشرات للبحث، لكنها ليست الحقيقة!

ابحثْ عن الحقيقة بنفسك.

***
(3)

سألتُ شيخي: ماذا بعد؟

أجاب: السؤال عن غيب لا يوجّه إلا لرب الغيب!

قلتُ: أقصد، ماذا تتوقع أو تخمّن؟

قال: لكل نبأٍ مستقر وسوف تعلمون!

احترتُ كيف أسأله، فالتفت نحوي وقال: لا تستعجل، لله حكمة لا نعلمها مما يجري، فانتظر حكمته!

***
(4)

مما أوصاني شيخي:

إياك يا بُني والنظرات؛ فإنها تُورث القلبَ الحسرات!

***

(5)

سألتُ شيخي: لماذا الظلَمَة في كل عصر لا يتعلمون أو يتعظون من مصير مَنْ سبقوهم، وهم قد رأوا خاتمتهم، أو أخبرتهم بها كتب التاريخ؟

قال: لو شعروا أنهم ظلمة لاتّعظوا، لكنهم يرون أنهم مصلحون!

ألم تقرأ قول الله عز وجل: ﴿وَإِذا قيلَ لَهُم لا تُفسِدوا فِي الأَرضِ قالوا إِنَّما نَحنُ مُصلِحونَ * أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدونَ وَلكِن لا يَشعُرونَ﴾ [البقرة: 11-12]؟

قلتُ: ولكن هؤلاء هم المفسدون.

قال: وما الظلم إلا قمة الإفساد.

***
(6)

سألتُ شيخي: شيخي، إذا ألمّ بك الضيق، فماذا تعمل؟

قال: أتذكر سعة رحمة الله.

قلتُ: ونعمًا بالله، وإذا كان الضيق في الرزق؟

قال: تذكّر أنَّ رزقَك لن يفوتك، فإنه يبحث عنك كما تبحث عنه.

وإنْ انغلق باب، سيفتح الله برحمته لك ألف باب.

ولكنّ الإنسانَ عجول.

***
(7)

سألتُ شيخي: لِمَ الموت؟

قال: لكي تتجدد الحياة.

قلتُ: كيف ذلك؟

قال: لو لم يكن هناك موتٌ لمَا عرفنا قيمة الحياة، ولربما مللناها!

لكن الموت يأتي ليعيد تجدد حبنا للحياة.

***

(8)

سألتُ شيخي: ما حقيقة الرزق؟

فأجابني: الرزق هو كل ما ساقه الله لك لتحيا على هذه الأرض، فكل ما وَهَبَ هو رزق لك، ولا تظن أن الرزق محصور في المال فقط.

فالعلم رزق،

والصحة رزق،

والجاه رزق.. وهكذا.

سألتُهُ: فلمَ التفاوتُ في الأرزاق بين الناس؟

قال: هَبْ أن الماء داخل دورقين متصلين في المستوى نفسه، فهل يتحرك ذلك الماء من أحد الدورقين إلى الآخر؟

قلتُ: لا، هكذا تقول قوانين الديناميكا الحرارية؛ لا حركة بدون تفاوت بين المستويين، فيتحرك الماء من المستوى الأعلى إلى المستوى الأوطأ.

قال: إذن، التفاوت هو سبب الحركة، وكذلك الرزق، فلو تساوى الناس في الرزق لمَا أحتاج أحدٌ لأحد، وما عَمَلَ أحدٌ عند أحد، وبتوقف العمل لا يكون عمران الأرض.

قلتُ: هل الرزق يأتي بأخذ أسبابه فقط؟

قال: الأخذُ بالأسباب من السنن الكونية للحياة، فمنْ أخَذَ بها نال أجرها، ومن ذلك الرزق؛ إذ الكسالى لا مكان لهم في كون تتحرك كل أجزاؤه، والله لا يساعد منْ لا يساعد نفسه، وهذا العدل في الجزاء يدخل في باب عطاء الربوبية الذي يتساوى عنده المؤمن والكافر.

لكن الأسباب وحدها ليست جالبة للرزق، حتى تركن إليها فقط.

قلتُ: شيخي، مرة تؤكد على الأسباب لجلب الرزق، ثم ترجع فتنكث ذلك!

ابتسم وقال: سأشرح لك مفصِّلًا؛ لا رزق يأتي من دون سبب أو أسباب لنيله.

فقلتُ - مقاطعًا: تمام، وهذا من السنن الكونية كما تفضّلت.

قال: أحسنت، لكن لا تظن أن أخذك بتلك الأسباب سيجلب الرزق؛ ألا ترى أنك تقوم بالأسباب نفسها كل مرة، ومع ذلك يختلف الرزق!

فلو كانت الأسباب وحدها، لتساوى الرزق في كل مرة يُعاد الأخذ بتلك الأسباب.

قلتُ: إن تباين الرزق مع تكرار الأسباب نفسها أمر ملموس في حياتنا، وهنا أسأل: لمَ الأسباب إذن؟

قال: هذه الأسباب إنما هي مانعة التخاذل والكسل عند البشر، فلو لم تكن هناك أسباب لقعد الخلق عن طلب الرزق، وما كان عمران للأرض.

وقل لي: ألم يكن الله قادرًا أن يهب الخلق أرزاقهم بدون أدنى جهد منهم؟

قلتُ: بلى.

قال: لكنه جعل الأسبابَ للعمران.

***

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى