في فلسفة الضرائب المصرية
كثرت الأيام التي يصحو فيها المصريون ليجدوا أنّ ضريبة ما قد فُرضت أو تغوّلت. وخلافاً لذلك، زفّ السيّد مستشار رئيس مصلحة الضرائب المصرية، سعيد فؤاد، منذ أيام قلائل، بشرى للمصريين، مفادها أنّ الموازنة الجديدة، قلّ فيها الاعتماد على الضرائب، لتصل إلى نسبة 71%، عوضًا عن 75% في العام الماضي!
يدفع المصريون عموماً الضرائب دون كثير من المناقشة، وربّما تجد أشكالًا يسيرة من الاعتراض، لكنها لن تفضي بالتأكيد إلى الامتناع عن دفع الضرائب. ولعلّ ذلك هو السبب في أننا لا نجد نقاشًا جادًا حول ما يُشرعن هذه الضرائب أو عدمه. حتى أنّ الاعتراض على فرض ضريبة جديدة، لا ينبع من رفض لجوهر فرض الضرائب، بل خوفاً من الانحدار في المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
يُحكى أنّ الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو، وصاحب "والدن أو الحياة في الغابات"، رفض أن يدفع ضريبة، قدرها دولار ونصف الدولار في العام، ما أدّى إلى القبض عليه، حتى دفعتها امرأة يُقال إنّها عمته. كان رفضه دفع الضريبة نابعاً من رفضه لسياسات الدولة. وتُعدّ تلك القصة مثالًا حيًا على عبارة "لا ضرائب دون تمثيل"، بل إنّ "ثورو"، في تلك الحالة، لا يستخدم الضرائب كأداة للتمثيل، بل الامتناع عن الضرائب هنا شكل من أشكالِ التمثيل.
من الصعب تحليل الموقف المصري من الضرائب، ولعلّ سبب ذلك يكمن في ضبابية المشهد السياسي المصري. وأظنّ أنّ أفضل نظرية لتفسير الشرعية السياسية في الدولة المصرية الحديثة هي نظرية "الي تكسب به ألعب به"، ومن الصعب وصفها بالواقعية السياسية، لأنّ تاريخ السياسة المصرية هو أقرب لعمليات التوفيق والجمع بين المتناقضات. ونقتبس من نجيب محفوظ في روايته "قلب الليل"، حيث يعرض البطل "جعفر الراوي" مشروعه السياسي على أستاذه "سعد كبير"، قائلاً:
"..... مشروعي الذي يقوم على أسس ثلاثة: أساس فلسفي، مذهب اجتماعي، أسلوب في الحُكم، أما الأساس الفلسفي فمتروك لاجتهاد المريد، له أن يعتنق المادية أو الروحية أو حتى الصوفية، والأساس الاجتماعي شيوعي في جوهره، يقوم على الملكية العامة، وإلغاء الملكية الخاصة والتوريث، والمساواة الكاملة، وإلغاء أي نوع للاستغلال، وأن يكون مثَلُه الأعلى في التعامل "من كلٍّ على قَدْر طاقته، ولكلٍّ على قَدْر حاجته"، أما أسلوب الحكم فديمقراطي يقوم على تعدُّد الأحزاب وفصل السلطات وضمان كافة الحريات -عدا حرية الملكية- والقيم الإنسانية، وبصفة عامة يمكن أن تقول إن نظامي هو الوريث الشرعي للإسلام والثورة الفرنسية والثورة الشيوعية. وأعطيت نسخة من المخطوط للأستاذ سعد كبير وأنا أقول: هاك رأيي... وقرأ سعد كبير المخطوط في مكتبي حتى فرغ منه في حوالي الساعتَين أو أكثر، ثمّ تنهَّد طويلًا وتمتم: لا فائدة! فانتظرتُ متوثِّبًاً، فعاد يتمتم وكأنما يحادث نفسه: سمك لبن تمر هندي!".
تجد الدولة تميل إلى الخصخصة وتدعم الحرية الاقتصادية، لكنها تتدخل في الاقتصاد أيضًا، تحت عدد هائل من الأقنعة!
لذا، ففلسفة فرض الضرائب لا تخلو من شكل من أشكال الـ"سمك لبن تمر هندي"، أي كلما احتاجت الدولة إلى مال فرضت ضريبة ما، دون فكرة واضحة عن حقوق المواطن وواجباته. كما أنّ الجانب الأخر من الضرائب، وهو الإنفاق، لا يخلو من التخبّط، إذ تجد الدولة أحيانًا، تدافع عن الرعاية الغذائية والصحية، وأحيانًا أخرى تهاجمها، ولا يعتمد ذلك في الغالب على تصوّر لحقوق المواطن، بل يعتمد على وضع المواطن ومدى احتماله واحتمالية انفجاره. وقد تجد الدولة تميل إلى الخصخصة وتدعم الحرية الاقتصادية، لكنها تتدخل في الاقتصاد أيضًا، تحت عدد هائل من الأقنعة!
أختم حديثي بملاحظة أجدها شديدة الأهمية، تقول إنّ الفعل السياسي، وغير السياسي، يجب أن يُقيّم اعتمادًا على جوهره، لا على نتائجه، إذ يميل الناس في الغالب إلى الضيق من فعل ما، إذا ما وجدوا أنّ حياتهم قد آلت إلى الأسوأ، رغم أنهم لم يضيقوا بذلك الفعل الذي أدّى إلى ذلك الوضع، وقد كان من الممكن أن تُحوّل صدفة من الصدف حياتهم للأفضل، أو على الأقل تحييد آثار ذلك الفعل. تلك الفكرة هي أولى الخطوات لتشكيل وعي وضمير سياسي نفتقر إليه بشدّة في بلادنا.