في تجديد العقل السياسي العربي
في مقالة سابقة بعنوان: "في الحاجة إلى عصر تدوين جديد" كتبتُ ما يأتي: "ما يسميه الجابري تدشين "عصر تدوين" جديد لا يمكن أن يتأسّس من فراغ، بل من خلال قراءة التراث في ضوء المناهج والمفاهيم الحديثة لتدوينه من جديد".
سأحاول في هذه المقالة الوقوف عند الطريقة التي مارس بها الجابري هذه العملية/ التدوينية الجديدة في أحد أهم الميادين الأساسية لانشغالاته الفكرية، وهو مجال الممارسة السياسية العربية، ماضياً وحاضراً.
من نافل القول إنّ الممارسات السياسية لها أساس ثقافي كمبدأ موجّه للعمل السياسي وكمنطق محايث تنتظم داخله المواقف والعلاقات بين الأفراد والجماعات، إن شعورياً أو لا شعورياً. فهذا الأساس الثقافي هو الذي يصوغ العقليات ويطبع السلوكات والعادات الذهنية والقيم الموجهة للفرد والجماعة، فقيمته في مدى تكوينه للرأسمال البشري الذي يصنع أو يتمثل أنماطاً محدّدة من السلوك السياسي، وهذا ما يشكّل، في نهاية التحليل، العقل السياسي الذي يميّز ثقافة معينة. وفي ما يخصّ حالتنا الثقافية العربية، فلها هي أيضاً عقلها السياسي الذي ميّزها في الماضي وما زال الأمر ممتداً إلى الآن، كما يظهر ذلك من خلال التجليات المختلفة لهذا العقل في حاضرنا المعاصر، الشيء الذي يتطلب عملية تدوينية جديدة تهدف إلى تجديده من الداخل لإصلاح ما يمكن إصلاحه وتجاوز ما يمكن تجاوزه من عراقيل تقف أمام أي تحديث سياسي يُدخلنا، كباقي الشعوب الأخرى، في إشكاليات العالم المعاصر.
أيّ تجديد للعقل السياسي يجب أن يبدأ من كشف الأسس الثقافية للإيديولوجية السلطانية التي تلغي السياسة من الأساس
ما هي إذاً هذه التجليات الممتدة لهذا العقل السياسي العربي؟ وما السبيل إلى تجديده؟ إنّ أول هذه التجليات في الحياة السياسية العربية المعاصرة هو هذا النزوع السلطوي الاستبدادي المترسخ في الذهنيات والرافض بعناد ملحوظ لأي انتقال ديمقراطي حقيقي. إضافة إلى ذلك، هناك تجلٍّ ثانٍ، هو هيمنة "مخيال اجتماعي" مشدود إلى رموز ماضينا السياسي البعيد والمفصول عن واقعنا المعيش، هذا المخيال يشكل مجالاً لاكتساب القناعات السياسية والاعتقادية الرافضة هي الأخرى لأيّة واقعية سياسية تنقد عقلنا السياسي من "لاتاريخانيته" المرافقة له، التي سبّبت لنا العديد من الكوارث المعروفة. وهذه التجليات إذاً، تجد أساسها الثقافي البعيد في تراثنا السياسي العريق الذي شكّل بنيتها اللاشعورية والممتدة إلى عصرنا الحالي. وقد ذكر الجابري في هذا الصدد أساسين ثقافيين لتجليات هذا العقل السياسي المُشار إليها أعلاه، قائلاً: "لم يعرف الفكر الإسلامي في الميدان السياسي إلا ميثولوجيا الإمامة والإيديولوجيا السلطانية، وإذا كان أهل السنة قد تجنّدوا للردّ على الأولى تكريساً للأمر الواقع، فإنه لم يوجد بعد من يرد على الثانية، لا في شكلها القديم ولا في شكلها المعاصر" (محمد عابد الجابري، "العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته"، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، ط.5. ص. 362).
إنّ العبارة الموروثة عن الفقه السياسي الإسلامي، السني خصوصاً، التي تقول: "من اشتدت وطأته وجبت طاعته" تشكل أحد عناصر البنية السياسية اللاشعورية التي تقف وراء كلّ تنظير معاصر يحاول إيجاد مبرّرات وأصول للاستبداد ولتمركز السلط في أنظمتنا السياسية. ومن هنا، فإنّ أيّ تجديد للعقل السياسي يجب أن يبدأ من كشف الأسس الثقافية لهذه الإيديولوجية السلطانية التي تلغي السياسة من الأساس، ولذلك لا بد من إيجاد بدائل لهذا النوع من التفكير "السلطاني"، بدائل تستطيع أن تشكل مرجعية لنا نعود إليها في الاتفاق والاختلاف الذي لا يخلو منه أي نقاش سياسي ممكن، ما يسمح ببلورة أرضية فكرية معاصرة تفتح أمامنا الأسئلة الحقيقية والفعلية التي تواجهنا في علاقتنا بذاتنا وبالعالم من حولنا.
الرغبة في الانتظام في تراث ومنهجية التجديد من الداخل هو ما دفع الجابري إلى بلورة أسلوبه الخاص في "التدوين الجديد" للتجربة السياسية الإسلامية الأولى
في هذا الإطار قدّم الجابري مساهماته في عملية التجديد هذه، مبرزاً مسار تكوّن تلك "التجليات الثقافية" لهذا العقل السياسي العربي، ومطالباً بتجديده من خلال تجاوزها وإحلال بدائل أخرى معاصرة لوعينا، وفي الوقت نفسه، منتظمة داخل تراثنا، انسجاماً مع رؤيته الفكرية الاستراتيجية والثابتة حول ما يسميه ضرورة "الانتظام في تراث" أو منهجية "التجديد من الداخل". إنّ هذه الرغبة في الانتظام في تراث ومنهجية التجديد من الداخل هو ما دفع الجابري إلى بلورة أسلوبه الخاص في "التدوين الجديد" للتجربة السياسية الإسلامية الأولى، ومعها تجربة الخلفاء الأربعة، وقد استخلص من الأولى، أي التجربة المحمدية، أربعة معالم تمنع كلّ محاولة لترسيخ الاستبداد السياسي وتسدّ الباب أمام إضفاء أيّة شرعية دينية على الإيديولوجية السلطانية، التي تبلورت وتجلّت تاريخياً فيما بعد. وقد لخص محاولته التدوينية الجديدة هذه في هذه المعالم "المحمدية" أو المبادئ الأربعة الآتية:
- مبدأ "وأمرهم شورى بينهم".
- مبدأ "وشاورهم في الأمر".
- مبدأ "أنتم أدرى بشؤون دنياكم".
- مبدأ "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
أما الثانية، أي تجربة الخلفاء وما كشفت عنه من ثغرات، فقد أدت إلى كوارث سياسية سرت بذكرها الركبان بسبب ما سمّاه الجابري، بلغة معاصرة، أزمة "الفراغ الدستوري"، أي غياب تقنين لطريقة تعيين الحاكم واختصاصاته ومدة حكمه، وهكذا يمكننا القول إنّ هذا التدوين الجديد حول المسألة السياسية في الإسلام اقتضى من الجابري الانطلاق من هذا الفراغ الدستوري الذي أبانت عنه التجربة السياسية للخلفاء الأربعة، وذلك من أجل استكمال النموذج المفتوح الذي عبّرت عنه التجربة المحمدية قبلهم، واستنتج من كلّ ذلك بعض الأسس الدستورية التي تملأ ذلك الفراغ وتساهم في عملية تجديد عقلنا السياسي العربي، وقد لخص هذه الأسس في ما يأتي:
- أولاً ضرورة الاتفاق على تحديد طريقة مضبوطة لاختيار الحاكم.
- ثانياً ضرورة تحديد مدة ولايته.
- ثالثاً ضرورة التحديد الدقيق لاختصاصاته.
مثل هذه العناصر هي التي ستمكننا، حسب الجابري، من تجاوز نمط الإيديولوجية السلطانية أو إشكالية الماوردي ومن يدور في فلكه من فقهاء ومتكلمين معاصرين، الذين يُنظّرون في عصرنا لإيديولوجية "الأمر الواقع" حسب العبارة المعلومة: "من اشتدت وطأته وجبت طاعته"، ولأجل ذلك دعا الجابري إلى القيام بعملية تجديدية ثقافية شاملة تمكننا من تحويل الاعتقادات الدوغمائية إلى مجال لجدل الرأي والرأي الآخر في إطارٍ من حرية التفكير والتعبير بعيداً عن ذهنية الطاعة أو التكفير، وكذلك تحويل العصبيات القبلية المغلقة، الشعورية أو اللاشعورية، إلى مجتمع مدني سياسي مفتوح، الشيء الذي سيسمح لنا ببلورة "مجال سياسي" بالمعنى المعروف في السوسيولوجيا المعاصرة، أي مجال خاص بالممارسة السياسية يتوسط ممارسة سلطة الحاكم على المحكومين، إنه المجال الذي تتحدّد فيه المصلحة العامة للدولة من خلال النقاش والتداول الحر بين الآراء المختلفة بعيداً عن منطق "أنا الدولة والدولة أنا" الذي ينسف هذه الوساطة ومعها السياسة من الأساس. هذا النوع إذن من التجديد لعقلنا السياسي هو الذي سيفتح أمام الفكر العربي المعاصر أفقاً رحباً وخصباً لمواجهة تحديات العصر.. وما أكثرها!