بين الحَرْفية والمجازية: في المداهمات النهارية والدعوات الخُلَّبية

05 يوليو 2023
+ الخط -

أثناء دراستي للفلسفة في جامعة تشرين، في مدينة اللاذقية، أقمت في منطقةٍ قريبةٍ من الجامعة. كان معظم سكان المنطقة من طلاب الجامعة أو من الضباط ذوي المنشأ أو الأصل الريفي غالبًا. وفي إحدى المرّات، سقطت مخدةٌ كنّا نلعب بها في بيتنا في الطابق الرابع إلى حديقة البيت الأرضي في البناية التي كنّا نقيم فيها. فنزلتُ وطرقتُ الباب، لكي أستعيد المخدة. ففتحت جارتنا الباب، فأخبرتها بما حصل، فقالت لي، بعد التحية: "تفضل". وكنت وقتها من "الحَرفيين الوثوقيين"، وآخذ الكلام بحرفيته بكلّ جديةٍ. فباغتُّها بالتفضل سريعًا، وما هي إلا ثوانٍ قليلةٍ إلا وأنا في الغرفة التي كانت جارتنا جالسةً فيها، بكلّ رواقٍ ورومانسيةٍ، مع زوجها الضابط. كان الزوج مسترخيًا، وهو في ملابسه الداخلية؛ فقفز مرعوبًا ومذهولًا عندما رآني في الغرفة. وأدركت حينها أنّ كلمة "تفضل" لا تعني أن أتفضل بالفعل، وأقتحم "خلوتهما الشرعية". ولا يمكنني، في السياق الحالي، التحدّث عمّا جرى بعد ذلك.

في ألمانيا، أدركت أنّني أقل تمسّكًا بالحَرْفية مما أظن، وأنَّ ثمّة سماتٍ ثقافيةً أتشاركها مع معظم أفراد الثقافة العربية، وأنّ الألمان أكثر حَرْفيةً منّي بكثيرٍ، في بعض السياقات. ومن تلك السياقات سياق الدعوات والعزائم، فحين كنت أتلقى دعوةً إلى بيت شخصٍ ألمانيٍّ، كنت أتبع العادات العربية العظيمة، فأشكر صاحب العزيمة على مبادرته، لكنني أعبّر عن عدم قدرتي على تلبيتها، وكلّي أملٌ وتوقعٌ أنه سيعيد الكرة ويصرّ على أن ألبّي دعوته، كما هو متعارفٌ عليه ضمنيًّا في "الثقافة العربية". ما كان يدهشني ويصدمني هو أنّ الحديث عن الدعوة ينتهي باعتذاري الواهن عن عدم قدرتي على تلبيتها. وقد بدا لي غريبًا وساذجًا الاعتقاد بأنّ اﻟ "ناين/ لا" تعني "ناين/ لا" بالضرورة. وبعد دفعي ثمنًا باهظًا بخسارتي لعددٍ من الدعوات والعزائم، صرت أسارع إلى قبول الدعوة قبل أن ينهي صاحب الدعوة الجملة التي تتضمن دعوته، بل صرت أقبلها أحيانًا قبل أن يتم التعبير عنها أصلًا. ولا يمكنني، في السياق الحالي، التحدّث عن كيفية فعلي لذلك.

ثمّة تمييزٌ بين اللغة الحرفية واللغة المجازية أو الاستعارية، بحيث يكون هناك تطابقٌ بين المبنى والمعنى في اللغة الأولى، وعدم تطابقٍ في اللغة الثانية. وعلى الرغم من أهمية هذا التمييز، فإنّ فلاسفةً كثرا أدركوا أهمية تفكيكه وتجاوزه، بدون تدميره. ونظرًا إلى وجود اعتقادٍ شائعٍ بأنّ الفلسفة هي ميدان اللغة الحَرْفية، على العكس من الأدب والشعر، على سبيل المثال، حيث تهيمن اللغة المجازية، سعى بعض الفلاسفة إلى إظهار مجازية اللغة والمفاهيم الفلسفية النظرية أو المجرّدة ذاتها. ومن أبرز هؤلاء الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، الذي رأى أنّ تلك المجازات والاستعارات وما يتصل بها ليست مجرّد أداةٍ نستخدمها في الفلسفة وغيرها، لتوضيح مفاهيمنا وأفكارنا المجرّدة، وإنما هي جزءٌ أساسيٌّ من فهمنا للواقع وصياغتنا اللغوية له، بوصفنا كائنات مجازيةً.

وفي كتابهما "الاستعارات التي نحيا بها"، قدّم جورج لايكوف ومارك جونسن تنظيرًا موسّعًا ومحاجةً منهجيةً له. ورأى آخرون أنّ اللغة (الفلسفية) هي دائمًا إما استعاراتٌ ميتةٌ أو استعارات حيةٌ، كتلك التي تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي، بول ريكور.

أما مواطنه الفيلسوف جاك دريدا، فقام، كعادته، بتفكيك مثنوية "اللغة الحرفية واللغة المجازية"، وذهب إلى درجة قلب العلاقة بين قطبي تلك المثنوية، ورأى أنّ اللغة المجازية أو الاستعارية ليست مشتقةً من اللغة الحرفية، بل إنّ اللغة هي استعارية ومجازية "أصلًا".

بعد دفعي ثمنًا باهظًا بخسارتي لعددٍ من الدعوات والعزائم، صرت أسارع إلى قبول الدعوة قبل أن ينهي صاحب الدعوة الجملة التي تتضمن دعوته

في التواصل اللغوي بين البشر، يمكن للتمسّك بالمعنى الحرفي للغة أن ينوس بين قطبين، يحتل أحدهما الحَرْفيون الوثوقيون، ويشغل الثاني الحَرْفيون التأويليون. فالحَرْفيون الوثوقيون يرفضون اللغة المجازية، بل يكرهونها، وحتى عندما يقرّون بوجودها، يصرّون على وجود معنى مجازيٍّ واحدٍ أحدٍ لا شريك له، للُّغة المجازية. والعداء للغة المجازية جزءٌ أصيلٌ من معاداة التأويل وما يتضمنه من إقرارٍ بالاختلاف والتعددية والنسبية والسياقية والتاريخية. وعلى هذا الأساس، يتبنى معظم المتطرفين المتعصبين، من المتدينين وغير المتدينين، توجهًا حرفيًّا وثوقيًّا.

في المقابل، يقر الحَرْفيون التأويليون بالإمكانية المبدئية الدائمة لتعدّد المعاني، لكنهم يحاولون ردم الفجوة بين المقول والقصد من القول، بحيث يقول المرء ما يقصده ويقصد ما يقوله، مع أخذ المعاني المتضمنة في أيّ قول، بجديةٍ وحرفيةٍ، كلّما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ومع أخذ تباين الظروف وتغيّر السياقات في الحسبان.

وفي عودةٍ إلى ضرورة تفكيك التقابل القطبي بين اللغة الحرفية واللغة المجازية، تنبغي الإشارة إلى أنّه ليس سهلًا، أو حتى ممكنًا دائمًا، معرفة مدى انتماء تعبيرٍ لغويٍّ ما إلى اللغة الحرفية أو اللغة المجازية. ولإظهار ذلك، سأكتفي بذكر عبارةٍ شهيرةٍ للفيلسوف، لودفيغ لفِتجنشتاين، ذات أهميةٍ خاصةٍ في السياق الحالي، وردت في ختام رسالته المنطقية الفلسفية، ويقول فيها: "ما لا يمكن للمرء التحدُّث عنه، لا بُدَّ أن يصمت عنه"! وقد أشرت أكثر من مرّةٍ، في هذا النص، إلى أنّ هناك أمورًا لا يمكنني، في السياق الحالي، التحدّث عنها، لكن تلك الإشارة لا تعني أنني كنت صامتًا في خصوصها.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".