في المخيّم.. ضاعت مني أنوثتي

16 اغسطس 2024
+ الخط -

عندما أفتح عينيّ كلّ صباح، أتساءل: هل سأمضي عمري هكذا؟

أدورُ حول نفسي كأنّ عمري كاملاً ليس أكثر من أسبوعٍ واحد، لا أتوقف عن تكراره، من لحظةِ التذمر عند الاستيقاظ والاحتجاج على حياتي التي تمضي أمامي وكأنّها لا تخصّني، حتى لحظة الارتماء في فراشي والغرق في النوم كأنّه أعظم انتصاراتي. فمنذ بداية الحرب وأنا أبحث عن أيّ طريقةٍ للتوازن فقط؛ لإخفاء كلّ هذا البؤس المُكدّس الذي ظهر فجأة في داخلي، وكلّ الواقع المشوّه.

وربّما نجحتُ في عدم السقوط؛ لكنّني بالتأكيد فشلت في الحفاظ على ذاتي كاملة، فشلتُ في العيش كشخصٍ واحد يعرف جيّدًا شكل حياته، وموضع خطواته، ووجهته أو على أقل تقدير يعرف من هو دون أن يحتار بين أجزائه التي تتناوب عليه.

ولأزيد الطين بلّة تعلّمت الصمت والتأقلم بدلًا من الرفض؛ لأنّي اعتقدت أنّ صوتي لا ينجح إلّا في إثارة المشاكل في الخارج والرعب في الداخل. خلعت أنوثتي ولبستها عشرات المرّات في اليوم، عجزتُ عن الاستمتاع بها، عرفت فقط كيف أراها مسؤولية وحملاً ثقيلاً. وهكذا صار العالم بالنسبة لي سباقًا، وعليَّ الركض لأكتشفَ فجأة أنّ الفوز لا يعنيني، وأنّ هذه الحرب تخرّب عليّ كلّ محاولةٍ للنجاة، أحسّ كيف تعبت بداخلي، وكيف أغرق كلّ يوم في برك الوحل المتشكّلة داخل أعماقي. فهذه الحرب تُتعبني، تؤرقني، أحلامي تؤنبني، ذكريات الماضي تلتف حول عنقي فتخنقني، تختلط الأمور عليّ فأضيع بين حياتي والقصيدة، أعرف عن نفسي أنّي ساعة مجنونة، وأخرى قنوعة وراضية، وأخرى ساخطة.

لا أحد يستطيع أن يرى الندوب على أعضائك الداخلية والكلمات العالقة في حلقك

كم من الصعب أن تشرح لأحد كيف تتوه فتاة داخل مخيّم، وكيف تموت قبل أن تجدَ المخرج وترجع لحياتها فتاة داخلها جثّة ما.

أحاول أن أبتلع دموعي، يحترق الطعام على النار. تسألني يافا: يحترق الطعام مرّة أخرى، تبتسم ساخرة وتركض باتجاه أخي؛ ريما تبكي مجدّدًا لأنّها أحرقت الطعام مرّة أخرى.

أتمنى من كلّ قلبي أن تنتهي الحرب، وأتساءل هل كانت لتفهم لو أخبرتها أنّي أردت أن أكون في مكانٍ آخر غير المخيّم.

لقد وجدت نفسي في عالم الكبار فجأة، أحدهم زجّ بي بداخله دون أن أنتبه، وقتل الدهشة من عيون طفولتي، فكنت مُجبرة أن أكبر وأن أنسى نوم الأطفال وأحلامهم الناعمة، وأن أحمل جثّة الطفلة التي في داخلي إلى الأبد.

لعشرة أشهر على التوالي، كأمٍ تحتضن جثّة طفلها أربت على كتفي، أُسرّح شعري الطويل، وأهدي العناق لنفسي الذي كنت أحتاجه؛ لأبقى حيّة ثم أعيش يومي بكلِّ هدوءٍ دون أن أنظر في عينيّ، ودون أن أعترف لنفسي بأنّي أشيخ، وأنّي أفقد أيّ رغبة بمعرفة أيّ شيء، وأنّ كلّ ما حولي فقد سحره مبكرًا حتى صار بلا معنى، وأنّ رغبتي في العيش توقفت رغم رغبتي القديمة بابتلاع الحياة بكلّ تفاصليها.

أتناول قطعة خبز من رغيفٍ يابس، شيء ما يقول لي: أعيدي قطعة الخبز، فهي أغلى ما نملك اليوم، في هذا البلد

تؤلمني هذه الحرب ولكن من يحتج على حزني، ثمّة أشياء كثيرة أودّ لو أدوّنها، ليتني كنت أعرف كيف أقولها؛ دون أن أنكمش على نفسي كدودةٍ خائفة.

ليتني أعرف كيف أشرح قسوة الألم الذي يأتيك من الداخل، لا أحد يستطيع أن يرى الندوب على أعضائك الداخليّة والكلمات العالقة في حلقك. ولا أعرف إن كانت هذه الكتابة تسعفني ولكنّي أعرف جيّدًا أنّي كنت أبحث عن طريقة كي لا أموت. لم أكن أمتلك إلا اللغة فقرّرت أن أدوّن مأساتي، أن أتقيّأ المأساة التي كادت تخنقني بالكلمات، أن أكتب عن الحرب وقسوة الظلم والموت والفراق واللجوء والاعتقال والنزوح. وكأنّ على عاتقي تقع مسؤوليّة تسجيل كلّ الوقائع والأحداث وتحويلها إلى مقالاتٍ ونصوص.

أحاول أن ألتقطَ التفاصيل المثيرة للدهشة دائماً، من نكبة النزوح إلى الكهرباء والغذاء والدواء إلى نكبة الغلاء. وكثيرًا ما حاولت مرارًا أن أجسّدها في قالبٍ روائي، ولكن لم أستطع. لذلك قرّرت الاكتفاء بكتابة النصوص التي تنحاز إلى رصدِ الومضة الإبداعية الصحافية، وليس سرد التفاصيل في وصف يومنا الممزوج بالخيال في حياتنا الاستثنائية في المخيّم. 

لا أريد شيئاً سوى نور الكهرباء، وكوب ماء بارد، وخبز طازج

أصحو على غبشِ الصباح المُعتم. هل ما زال الليل ليلاً حتى إشعار آخر؟ أحاول التقاط هاتفي لأرى الساعة إلى أين حالت، فأجد بطاريته نفدت بعد غفوة الكتابة الليليّة. أحاول أن أتحسّس الطريق إلى "قالون" المي، فأسقط على الأرض؛ فأجدها الفرصة المثلى لتفريغ تعب النهار كلّه بالبكاء. ما هذا اليوم الشحيح؟ أتناول قطعة خبز من رغيفٍ يابس، شيء ما يقول لي: أعيدي قطعة الخبز، فهي أغلى ما نملك اليوم، في هذا البلد.

إنّ من يرى غزة عن قرب، ليس كمن يراها على شاشةِ التلفاز فقط. يصحو المخيم في كلّ يوم باكراً، حيث لا ماء، ولا كهرباء، ولا تلفاز كي أبحث عن نشرة الأخبار، عدا عن انقطاع شبكة الإنترنت، يجعلني في سجنٍ لا مفرّ منه. أمّا عن الليل، فكلُّ الليالي في المخيّم لا تشبه شيئًا آخر سوى الموت والخيبة. 

ليس السجن خيمة ضيّقة هنا، بل أصبح بمساحة الوطن. أمشي، وأشعر بأنّي أسير في سجني. أبحث عن الأوكسجين الضائع، وعن نسمةٍ عابرة لثوبي المبلّل بعرق شمس آب.

أستمع إلى شخصين يتجادلان حول انتهاء الحرب؛ يقول الأول: يوماً أو يومين وتنتهي الحرب. يقول الآخر: أميركا لن تدعها تنتهي. أصمت وأتابع خطواتي إلى البحر. لا أريد أن أدخل في صراعٍ طويل لا أعرف نهايته. لا أريد شيئاً سوى نور الكهرباء، وكوب ماء بارد، وخبز طازج. لا أريد سوى فنجان القهوة الخالي من التوجّس، أريد كتابي، وغرفتي.

ريما القطاوي
ريما القطاوي
ريما القطاوي، كاتبة روائية، وباحثة في الشأن العام عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، تدور اهتماماتها البحثيَّة حول القضايا العامَّة المعاصرة ودورانها في عوالم الصحافة، صدر لها رواية "كلنا على سفر".