عن حبنا للحياة
يقول أبيقور: "ما دمتُ موجودًا، فلا موت، وإذا جاء الموت، فلا وجود لي، لا داعي إذاً للتفكير في أمر ليس لي به شأن وأنا حيّ". ترى هل كانت حياتي رهينة إلى هذا الحدّ حتّى تنطفئ في رحلة مقدّرة نحو البحث عن مآلات الحياة، والموت المحتّم والقطعيّ؟ أم أنّ قدر ولادتي هنا في هذه الأرض تحديدًا طريقة أخرى للحياة ترشدني بها نحو قدري الجديد بين فينة وأخرى؟!
منذ بدء العدوان على القطاع وأنا أحاول المران على تهجئة حدس اللحظة في توثيق مشاعري المستفزّة أصلًا، والخائبة بالرغم من الشلل الثقافيّ الذي أصابني وأنا أركض في محاولات النجاة في كلّ يوم، شيئًا واحدًا كنت أجاهد على ألّا أفقده في معركة الطوفان هذه "لغتي" بوصلتي للعالم، وقلبي، وعيني الصحافيّة التي ترصد كلّ أنملة، وكلّ شبه محتمل، وكلّ إحساس، لغتي التي من خلالها وحدها أستطيع كتابة كلّ سيناريو يحمل ألمي المعجون بالفقد، والعزلة والخوف.
تلك القيمة الفنّيّة، ووثيقتي الروائيّة بل وهُويّتي التي أبثّ من خلالها ما أصابني من قلق، وحيرة لغتي التي أعيد من خلالها تدوير مشاعري لتتأقلم مع حالتي الجديدة، دافعةً كلّ ظنون السوء إلى منفاها في قلبي وعقلي، والموت الذي يترصَّدني في أيّ خطوة أخطوها. ولأنّ الشعر يحضر في ثنايا السرد كثيمة متوهّجة، ولأنّ الكتابة هي ملخّص عذابات كاتبها وبها ومنها يصبح روحًا خفيفة من كلّ شيء، ولأنّ باللغة يدافع الكاتب عن مجازاته في الحياة لا سيّما في ظروف العزلة الإجباريّة التي يعيشها في برزخه بين الدمار.
ولأنّي لا أرغب لأيّ لحظة عشتها أن تفلت من بين يديّ، ولأنّي لا أمتلك رفاهيّة حمل الكاميرا الوثائقيّة، قرّرت أن أستبدل اللقطات السينمائيّة وزواياها بعين القلم وقلبي؛ مدوّنة مشاعري من دون أن أتخلّى عن جماليّات السرد الصحافيّ؛ مسخّرة إيّاها في معمار روائيّ على درجة عالية من الحساسيّة الإنسانيّة لكلّ لمحة، أو حلم، أو اشتهاء أو وجل ما دام كلّ شيء من حولي يبدو مثل خطأ شائع، ومكرّر لعلّي لمرّة واحدة وبطريقة مغايرة هذه المرّة أهدّئ من روعي، ومخاوفي! أضافت الحرب في غزّة الكثير من الألم، والدمار، والحسرات، إلى جانب الخوف، والأنين، والعزلة، والرغبة الشديدة في الانعتاق من أسر هذه البلاد.
وبالرغم من ذلك، لم أكن أملك خيارًا آخر سوى الاستمرار في المقاومة. كنت أقف من قبل في منتصف ظلال الشعور، أخاف نصف خوف، وأتمتّع بكلّ نصف يخطر ببال مخلوق، زالت هذه الأحاسيس المتبرّجة بنصف العتمة التي تحيط بحياتي، حتّى إنّي لم أعد أشعر بالخوف أبدًا. لقد عشت اللحظة التي فهمت فيها أنّ الحرب لن تمرّ بالسهولة التي تحدث فيها الأشياء. لقد اختبرت التناقض بين طبيعتنا أفراداً وهذا البلد الذي نعيش فيه أسرى، وكلّ ما يعتري ذلك من مواجهات مستمرّة بين دواخلنا وما هو خارجها.
في هذه الحرب، اصطدمت بأعمق مخاوفي وهو الواقع الذي أعيش فيه، وكان سؤالي دائمًا ما سُبُلي للتكيّف؟ بماذا أضحّي وما هي المساومات التي أقوم بها؟ وماذا أستطيع أن أغيِّر وما هو ما لا أستطيع تغييره؟ كلّ تلك الأسئلة واجهتني في أثناء التخطيط المتواصل في محاولات النجاة كلّ يوم، ففي كلّ مرّة ثمّة ما ينكشف أمامي. مشكلات بحاجة إلى الحلّ، وعوائق تحتاج إلى التجاوز، والرغبة في عيش أقلّ قسوةً وحاجة ملحّة للتحرّر كتلك الحمامة التي اخترقت فضاء قفصها الكبير لتصطدم بآخر ثمّ آخر ضمن سلسلة من القيود؛ لكنّ الرغبة شيء والواقع شيء آخر، وكأنّ كلّ شيء نعيشه ما هو إلّا مواجهة دائمة بين ما نفكّر فيه وما نبتغيه.
وعلى الرغم ممّا أفقدتنا إيّاه الحرب، وحقوقنا المسلوبة رغمًا عنّا وبالرغم من كلّ الطموحات، والرغبات في الإنجاز، والانطلاق نحو الأفق، والعجز الذي يكبّلنا ويحدّ من كلّ أمنياتنا. هذا العجز والخوف تحديدًا هو دعوة حرّة ومستقلّة لأن نؤمن بأنّ وجود الخوف لا بدّ أن يدفعنا للاستيقاظ أكثر، والتَّمعُّن في رؤيتنا وفي المغزى الكامن وراء ذاك الخوف.