إنّنا نطرقُ جدران الخزّان
ليس الوطن خريطة وحسب، أو شعارات حزبيّة وجغرافيا سياسيّة. كما أنّه ليس حدودًا أو شعبًا، بل هو أبعد من ذلك بكثير؛ إنّ الوطن لمن لا يدرك حريّة.
يقول مظفر النواب: "ورضيتُ أن يكون نصيبي في الدنيا كنصيبِ الطير. لكن، سبحانك حتى الطير لها أوطان، وتعود إليها، وأنا ما زلت أطير، فهذا الوطن الممتدّ من البحرِ إلى البحرِ، سجون متلاصقة، سجان يمسك سجاناً". فكيف يمكن أن يصبح الوطن سجناً، والمواطن سجيناً؟
ربّما نواسي أنفسنا بماضي البلاد مرّة، ونحيلها إلى حلمٍ مستقبليٍ في مرّة أخرى. أمّا الحاضر، فسيظلّ مهمومًا بأسئلةٍ لا نهاية لها عن مفهوم الوطن، خاصةً تحت ضغط ذاكرة الإبادة التي راح ضحيتها أكثر من أربعين ألف شهيد، غير الجرحى والمفقودين والمعتقلين، وهم بعشرات الآلاف أيضا.
اليوم، لم يبق من بناء الوحدة والحريّة أيّ طابقٍ، حتى الطبقة الوسطى انتهتْ هي الأخرى. كما أنّ البلد الذي كان يحتضنها، لم يعدْ قادراً إلّا على تضميد جراحاته، وخذلانه، ومداراة أحزانه المديدة على نفسه، وعلى أبنائه، محاولاً توحيد ذاته أولاً، ولمّ شمل أبنائه ثانياً، خصوصًا بعدما تشظّى حلم العودة إلى الوطن الكبير فلسطين؛ ليصبحَ أقصى حلم لدينا هو شرب فنجان قهوة في البيت الذي تحوّل إلى كومةٍ من الركام.
ولا أعلم هل يهم اليوم تقديم شهاداتنا الروائيّة عمّا عشناه من تفاصيل الحرب، وهل من فرصةٍ لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، على الأقل أدبيّاً؟ لكن، كيف تكون نجاة المدينة من خلال رواية، إن لم يكن عبر توطيد علاقتها بالذاكرة، سواء المكانيّة أو الزمانيّة، الجسديّة أو الروحيّة؟
مقولة "عايشين من حلاوة الروح"، هي الأكثر التصاقاً بواقع أهل غزّة اليوم
هل أكتب عن البعض الذي سافر، أو الآخرين الذين غابوا في المعتقلات، أو القهر من خلال الموت، أو الموت الذي اعتاده الناس وألفوه في غزّة، حتى أنّهم باتوا يفضلونه جماعياً بدلاً من الموت فرادى، أو ملاءات الموت على أثر الصواريخ، أو الملجأ/ المقهى الذي نهرب إليه من حرِّ الخيمة وسرداب المخيّم؛ لنشرب قهوتنا على شرفِ توقيع الموت بقذيفةٍ تُحيل المكان إلى مجزرة.
كم من الوقت أستطيع أن أحتمل هذه الحرب داخلي؟ هل لذلك أكتبها؟ لأخرجها منّي؟ وأخرج منها؟ ألدُها فتلدني.
ربما لا يُصدِّق الكثيرون كيف استطاع الغزيّون أن يتغلّبوا على محنهم اليوميّة، وأن يقلبوا هزائمهم المديدة إلى انتصاراتٍ مُظفَّرة. قد يظنّ البعض أن ذلك مبالغة، أو ضرب من التندّر، لكن واقع الحال يؤكّد أنّ تلك الانتصارات لا تعني غير الغزيين، ولن يشعر بلذَّتها من لم يُعايش حيثيات الحرب شخصياً.
كأن يحظى المرء بمقعدٍ شاغر في باصِ نقلٍ، فمن دون ذلك قد يبقى لساعاتٍ طويلة "مشنططاً"، هو وحقائبه، وأغراضه في الطرقات، وألعن من ذلك انتظاره في ذروةِ الازدحام، مضطرًا لأن يُطاحِش المئات، وأن يتغلّب على ستايل المثقف والجنتل. وهذا كلّه، إلى جانب اصطفافاته الأخرى المريرة على الدَّور في الفرن، قاصدًا بضعة أرغفة من الخبز، تلك اللحظة تدفعه لأن يرفع غنيمته من هذه الحرب المريرة، وكأنّها كأس النصر.
وما أتحدّث عنه ليس انتصاراً علمياً، خاصة أنّ وضعنا معروف، وآخر ما يشغل بالنا نحن الغزيّين، البحوث العلمية، أو الدراسات الأكاديميّة، أو المنجزات الفكرية، لكن سعادة الإنسان الغزّي لإرادة العيش هي كل ما يتحكَّم به، هو تلك الإرادة بأبهى تجلّياتها؛ بدلاً من أن يكتفي بلعن حظِّه الذي أبقاه في هذه البلاد، مؤمنًا بتَعلّم صَبْر الأعمى.
نعيش، نحن الغزيين، اليوم في الظلام، نواجه جحود التُّجار وأسواقهم المُظلمة كقلوبهم، ونوَّاب عزرائيل وأبالسته المتمترسين بثياب ملائكته، ولعلّ مقولة "عايشين من حلاوة الروح"، هي الأكثر التصاقاً بواقعنا نحن الغزيين. وكلّما تفكّرت في كلّ هذا حزنت أكثر.
ومع كثرةِ الفاسدين والمفسدين، واليأس من إمكانيّة إصلاح الحال والأحوال؛ فإنّ لسان حال الغزيين يتجسّد فيّ صوت واحد يقول: اتركوا شيئاً للأعور الدجال، كي يجدَ فرصةَ أن يملأ الأرضَ فساداً حين يظهر.
لذلك لم يعدْ أمام هذا الشعب إلّا السخرية، ورغم أنّه فقد كلّ شيء إلا أنّه لم يفقدْ حسّ النكتة، بل تضاعف عنده، وبات يتهكّم ويتندَّر وكأنّه ينتقم لذاته من واقعه، وعروبته عبر النكتة التي باتت وجعاً مقلوباً. وكأنّ ما لم تستطعه الحرب، بكلِّ ما فيها من موت، وبتر أعضاء، وشلل، وعاهات مستديمة، وتفجيرات وصَلْيَات صاروخية، وإعدامات، وألغام... تقوم بها تلك التنديدات، والاستنكارات الحكيمة لدول الجوار، بدمٍ بارد، داقَّةً المسمار الأخير في نعشنا الواسع المُسمّى "غزة".