فوضى المصطلحات (1)

19 فبراير 2024
+ الخط -

في زمان التواصل الفعّال بين الحضارات المختلفة كانت الترجمة هي الوسيلة في هذه العملية، إذ حملت على عاتقها نقل مفاهيم ومضامين حضارة ما إلى أخرى في عملية صامتة قائمة على دلالة الألفاظ المستخدمة من لغة الحضارة المرسلة إلى لغة الحضارة المستقبلة، وكانت (المصطلحات) هي المرتكز للتبادل الحضاري.

فكان للمصطلح الوافد مصطلح مقابل، المفترض أن يحيط بدلالة ذلك الوافد، وليس مجرد ترجمة فقط، فالمصطلح – كما يقول د. عبد الوهاب المسيري: "ليس مجرد كلمة مسكوكة، بل هو وعاء لفكرة مضغوطة لا تلبث أن تحتل مكانًا في وعي متلقيها، لهذا فالمصطلح ربما كان عبارة عن جرعة مخدرة تدخل إلى الوعي الفردي أو الجماعي عن طريق اللغة"، فإن الخطورة في ترجمة المصطلح الوافد بمصطلح مقابل تكمن في أن الأخير سيتم تداوله والتعامل معه مكان المصطلح الأصلي تماماً.

المطلق الخطر

(إنه لا مشاحة في الألفاظ والمصطلحات) هذه الجملة راجت بين المثقفين والكتّاب، والتي تعني أنه لا حرج لأي باحث أو كاتب في أن يستخدم المصطلح – أي مصطلح – بصرف النظر عن البيئة الحضارية التي ولد فيها المصطلح، وهذا (الإطلاق) في الاستخدام أكسبها – أي المصطلحات- أهمية بالغة باعتبارها (وعاء) نقل المفاهيم من حضارة لأخرى، ولأن الحضارات متعددة فقد تتفق في المصطلحات مع اختلاف مضامينها والمفاهيم المنطوية تحتها و"هذا الاختلاف في المضامين والمفاهيم، مع الاتحاد في المصطلح – الوعاء- أمر شاع في العديد من المصطلحات التي يتداولها العرب والمسلمون ويتداولها الغرب، مع تغاير مضامينها في كل حضارة، وهو أمر يُحدِث الكثير من اللبس والخلط في حياتنا الثقافية والسياسية والإعلامية المعاصرة، التي خلطت فيها وسائل الاتصال مصطلحات كثيرة، اتحدت في اللفظ مع اختلافها في المضامين والخلفيات والإيحاءات"، مما أوجب وضع ضوابط للتعامل مع تلك المصطلحات الوافدة.

إن الضابط الرئيسي – من وجهة نظري – يتمثل في أخذ مدلول المصطلح من بيئته الأصلية التي ولد فيها وليس من إفرازات الترجمة العربية للمصطلح، وذلك لأن البيئة الأصلية أقدر على (توصيف) المصطلح التوصيف الحقيقي، وكذلك أقدر على الإحاطة بالظروف المتعلقة بظهور هذا المصطلح سواء تاريخية أو سياسية أو ما شابه، كل ذلك بعيداً عن (اجتهادات) المترجمين في توظيف لفظ عربي أو ألفاظ عربية (تقارب) ذلك المصطلح، أو توليد لفظ جديد لمصطلح لم تتطرق له العربية، وكذلك بعيداً عن (تقديم) المفكرين المتحمسين للمصطلح أو المناهضين له – على حد سواء – فتختلط الأوراق على المتلقي ما بين قبول أو رفض المصطلح بناءً على الثقافة المُسْبَقة التي عرضها هؤلاء المفكرون للمصطلح.

ودعوني هنا أقسّم أنواع المصطلحات الوافدة إلى:

1/ مصطلحات وافدة لا مقابل لها. 

2/ مصطلحات وافدة لها مقابل مقارب.

3/ مصطلحات وافدة لها مقابل مطابق.

مصطلحات وافدة لا مقابل لها

هناك مصطلحات لا تمت لحضارتنا الإسلامية أو ثقافتنا العربية بصلة، وبالتالي يضطر المترجم لتوليد مصطلح عربي من اشتقاق جذر المصطلح

هناك مصطلحات لا تمت لحضارتنا الإسلامية أو ثقافتنا العربية بصلة، وبالتالي يضطر المترجم لتوليد مصطلح عربي من اشتقاق جذر المصطلح أو أثره أو نحت بين كلمتين أو ترجمة حروفه إلى العربية.

مثال على ذلك مصطلح (العلمانية) secularism الذي لا يوجد له مقابل، فكان اشتقاقه من العالَم أو العلم – كما أراد مترجموه - لكن هذه الترجمة هل هي صحيحة؟

كما أشرنا إلى الضابط سابقاً، فإن كلمة secularism لها مدلولها في الغرب، كما تقول دائرة المعارف البريطانية: "العلمانية هي حركة اجتماعية تهدف إلى حرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا فقط"، فالترجمة الموثوقة هي اللادينية (بلا دين)، وهي فصل الدين عن الحياة أو الاهتمام بالحياة الدنيا فقط، لكن الذين ترجموا المصطلح بالعلمانية يصرّون على (كسر العين) ليوهموا المتلقي أن العلمانية من العلم والعلمية، وهذا غير صحيح لأن النسب إلى العلم هو scientific والمذهب العلمي هو scientism، وهذه أزمة المصطلح عند المتلقي، وعلى غرار العلمانية تأتي مصطلحات الحداثة والعولمة وغيرهما.

مصطلحات وافدة لها مقابل مقارب

هناك من المصطلحات ما يكون لها مقابل في حضارتنا الإسلامية أو ثقافتنا العربية، ويكمن الخلط والالتباس بوضع المصطلح الوافد على أنه مقابل تماما للمصطلح العربي أو الإسلامي الذي لدينا، فيتم التعامل مع الوافد كنظير لمصطلحنا، ومن ثم نصدره إلى الغرب على أنه نفس مصطلحهم الذي أخذناه منهم؟! 

مثال على ذلك الديمقراطية Democracy؛ كثير من الكتّاب فسروها على أنها الشورى الإسلامية وتعاملوا معها على أن الديمقراطية تقابل الشورى، وهذا خلط، نعم هناك نقاط تتقارب فيها الديمقراطية مع الشورى، لكن هناك نقاط حاسمة لا مجال للتقارب بينهما؛ فالديمقراطية التي تعني (حكم الشعب – أو الأمة - نفسه بنفسه)، وهذا تقاربها مع الشورى الإسلامية في آلية الحكم، لكن "الجزئية التي تفترق فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية، فإنها لا تكاد تعدو الخلاف حول:- لمَنْ السيادة في التشريع ابتداءً؟

فـ"الديمقراطية" تجعل السيادة في التشريع ابتداءً للشعب والأمة، أما في الشورى الإسلامية فإن "السيادة" في التشريع ابتداءً هي لله عز وجل، وتجسدت في (الشريعة) التي هي (وضع إلهي) وليست إفرازاً بشرياً ولا طبيعياً، وما للإنسان في التشريع إلا سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية والتفصيل لها، شريطة أن تظل (السلطة البشرية) محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي"، وليس كما أقرت ديمقراطية مجلس العموم البريطاني بإباحة الشذوذ الجنسي عام 1967.

وعلى غرار مصطلح الشورى والديمقراطية، هناك مصطلحات وجد مترجموها (تقارباً) في جزئيتها مع مفاهيم في الدين الإسلامي، فخلطوها بها أو نسبوها لها، مثل اشتراكية الإسلام ورأسمالية الإسلام واللبرالية (الحرية) وغيرها.

***

وللحديث تكملة..

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى