فلاحون يشربون الماء من (القِلْد)

30 يوليو 2023
+ الخط -

شخصيةُ صديقي أبو سطام هي الرابط بين الحكايات التي أقدّمُها لحضراتكم، وقد أشرتُ، سابقاً، إلى أنها شخصية ملتبسة، فمن يستمع إلى حديثه لا بد أن يضيع الحد الفاصل بين الواقعي والتَخَيُّلي، بمعنى آخر؛ أنت قد تصدق رواية عارية عن الصحة يسردها عليك، وتشكك بصحة رواية أخرى صحيحة وواقعية بنسبة 100%.

كان أبو سطام يحكي لي: أن رئيس قسم الإحصاء الجديد في مديرية الزراعة بإدلب، السيد سطام، طلب من موظفي القسم أن يُحصوا عدد الفلاحين الذين يشربون الماء من القِلْد، وشرح لي أن القِلْد حفرة في الصخر يتجمع فيها ماء المطر في الشتاء والربيع. وأنا تدخلت في سياق سرده، قائلاً:

- على مهلك يا أبو سطام، أريد أن أعرف: هل تطورت عمليات الإحصاء في بلادنا إلى هذه الدرجة الغريبة؟

- نحن، يا أبو مرداس، لم يكن لدينا إحصاء لكي نقول إنه تطور أو تراجع. ولكن كان من المهم، بالنسبة إلينا نحن موظفي القِسم، أن نتجنب الأخذ والرد مع الأستاذ سطام، فقد كان واضحاً أن دماغه، على حد تعبير أهل مصر، جزمة قديمة.. لذلك هززنا رؤوسنا إلى الأسفل، وقلنا له: حاضر. وبعدما خرج من المكتب، قال أحدُ الزملاء إن المفروض بنا أن نُبلغ مدير الزراعة بأن هذا الإجراء تافه، ولا يجوز أن ننفذه، ففيه إضاعة للوقت، وهدر للمال، فضحك أبو نديم، وهو الموظف الأكبر سناً بيننا، وقال:

- اسمعوا كلامي، وركزوا معي. هذا المدعو سطام، جاء إلى هنا وفي حقيبته قرار أكبر من ملحفة اللحاف، ينص على أنه مدير الإحصاء، يعني هو حر بما يفعل، وهو المسؤول عن الفشل الذريع الذي سيحصل بالتأكيد، ونحن عندنا مثلان شعبيان يمكن أن نعتمد أحدَهما أو كلاهما، الأول (فخار يكسر بعضه)، والثاني (اربط الجحش مطرح ما يقول لك صاحبُه)، وإذا بدأنا بتنفيذ الإحصائية المطلوبة، وتعرضنا لمشكلة، يصبح من واجب سطام أن يحلها بنفسه، من مبدأ المثل القائل: مَن يُصعد الجحشَ فوق ناطحة السحاب مجبور أن يُنزله..

المهم؛ حسم أبو نديم الأخذ والرد بأن فتح درج مكتبه، وأخرج منه أوراقاً، أخذ بعضها وخرج متجهاً إلى مكتب مدير الزراعة، استأذن ودخل، وأعلمه بأننا سنقوم، اعتباراً من صباح الغد، بجولة إحصائية تنفيذاً لتوجيهات رئيس القسم الجديد، الأستاذ سطام، وبعد حصوله على موافقة المدير، نَظَّمَ لنا أذونات سفر، وقعها من المدير الذي أوعز إلى رئيس المرآب بأن يفرز لنا سيارة مع سائقها، وخرجنا في اليوم التالي لإحصاء الفلاحين الذين يشربون من القلد!

- حلو.

- الله يحلي أيامك يا أبو مرداس. وكان الشيء الطبيعي أن نعطي حق قيادة الجولة الإحصائية لأبو نديم، فهو ليس موظفاً كبيراً بالسن وحسب، بل إنه رجل "حربوق" يعرف كل أنواع التحايل على القانون، وبارع في تطبيق المثل الذي يقال عن موظفي الدولة كلهم، وهو: غَيّبْ شموسْ واقبضْ فلوسْ.

- عذراً أبو سطام، هل يوجد إنسان حربوق أكثر منك؟

- نعم، يوجد. إنه أبو نديم. والمثل يقول: كل حربوق يوجد أحَرْبَق منه! الخلاصة، أعطى أبو نديم أمراً للسائق بأن يسير بنا في طريق جسر الشغور، لكي نضرب أقْلَمَة.

- لم أفهم. كيف تضربون أقلمة؟

- كلمة أقلمة أصلها تركي، (Uklama) ومعناها، حرفياً، التفقد، أي أن نسير في الطبيعة، وننظر، ونتأمل، فقط، دون أن نقوم بأي إجراء، وكأن ما نفعله مجرد استطلاع للمواقع.. وذهبنا، بالفعل، وتجاوزنا جسر الشغور، ووصلنا في تلك المنطقة المرتفعة، الصاعدة باتجاه مدينة اللاذقية، إلى حدود الإنكزيك، البلدة الصغيرة التي غيروا اسمها فأصبحت "الغسانية".

- بالمناسبة يا أبو سطام، الغسانية هي مسقط رأس كل من الفنانين سلوم حداد وعابد فهد..

- حلو. يا سيدي، ومن مفرق الإنكزيك استدرنا، وعدنا، حتى وصلنا إلى بلدة أريحا، ومن أريحا ذهبنا صعوداً إلى جبل الأربعين، وعندما وصلنا إلى الجبل، أوعز أبو نديم للسائق بأن يصف السيارة أمام دكان القصاب الشهير (أبو أحمد البَوْ). دخلنا، وجلسنا حول إحدى الطاولات، وأبو نديم أوصى على كيلو شقف مشوية، مع كيلو كباب، وبندورة، وبصل، وسلطة، وحمّص، ومتبل، وقبل أن يأتي الطعام، أوضح لنا أنه سيدفع تكاليف الرحلة كلها من جيبه، وغداً، سيطلب من رئيس قسم المحاسبة في المديرية، أن يصرف لنا تعويضات السفر، وعندما نقبض، يجب على كل واحد منا أن يسدد له ما يستحق عليه، وأضاف:

- يعني، في المحصلة لن تخسروا شيئاً، وعلى قولة المثل الشعبي: من دهنه سَقّي له.

قلت لأبو سطام ظاهرُها الجد، وباطنها السخرية:

- طيب، أخبرني الآن، هل عثرتم على عدد معقول من الفلاحين الذين يشربون من القِلد؟

نظر إليّ ملياً، ثم قال:

- لو كان الأمر بيدي لمنعتُ القسم الأكبر من أدباء بلادنا من (اقتراف) الكتابة الواقعية. يا أخي روحوا اكتبوا عن الزهور، والهواء العليل، والنساء الحسناوات اللواتي لا ترونهن في الواقع، بل تخترعونهن بأخيلتكم.

- لاحِظْ، يا عزيزي، أنك تسخر مني، مع أن سؤالي كان مبطناً!

- حاشاك، أنا لا أسخر منك شخصياً، ولكنني، كالعادة، أحب أن استفز الجانب الساخر فيك. قل لي، الآن: هل تعتقد، بالفعل، أن عقولنا، نحن موظفي قسم الإحصاء بمديرية الزراعة، صغيرة إلى درجة أن نبحث في القرى، والبلدات، والكفور، عن فلاحين يشربون الماء من القِلْد؟ يا سيدي، المهمة كلها أنجزناها قبل أن نغادر جبل الأربعين.

- كيف؟

- أكلنا، في البداية، شقفاً وكباباً مع توابعهما، عند (البَوْ)، وسررنا بهذا الطعام الذي أنا شخصياً لا أذوقه حتى في المناسبات، ودفع أبو نديم الحساب، وسأل صاحب المحل عن مكان رائق نجلس فيه، فدلنا على مطعم الفنار، لصاحبه أبو منير الفَنَر، الذي يطل على واد سحيق عامر بالأشجار والصخور. ذهبنا، وهناك أوصينا على مشروبات ساخنة، وفتح أبو نديم الدفتر، وبدأنا بالإحصاء.

ضحكت وقلت: أيوه. يعني لجأتم إلى الكذب والاختلاق.

قال: بالضبط.

(وللحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...