فقه الميزان في وعي الزمان (1)
في زمن عصيب تمر به أمتنا، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث الاختلافات فيها على أشدها، والتمزق بين السياسيين تجاوز العظام إلى النخاع، والتفرق بين التوجهات الإسلامية تجاوز الحدود، والمشروع الاستعماري الجديد القديم يتقدم بشكل مريب مفككاً الأمة، ويكمله المشروع الطائفي متمدداً في ظل الفوضى الهدامة التي صنعتها الدول الطامعة ذات الاستراتيجية بعيدة المدى، مستفيدة من حركات العنف والإرهاب باسم الإسلام -مثل "داعش" و"القاعدة"- لتشويه صورته الجميلة، في إقصائه عن جميع الميادين، ومحاربة حركاته المعتدلة لترسيخ مزيد من الظلم والاستبداد في بلاد الإسلام والمسلمين.
وإذا كانت حركات الأمم الإيجابية مرتبطة بالفكر القوي الجامع المؤثر، فإن أملنا كبير في تبني الأمة الفكر الصحيح الجامع بين الأصالة والمعاصرة، والثابت والمتغير، المتنور بنور الله تعالى، المستهدي بالفهم الصحيح لكتاب الله الذي "لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت 42).
ومن خلال معايشتي للقرآن الكريم وحفظه والتدبر فيه منذ أكثر من نصف قرن، وعملي على تأصيل فقه الميزان منذ أكثر من ربع قرن، توصلت يقيناً إلى أن القرآن الكريم هو هداية لعقولنا وطريقنا المستقيم، وشفاء لأمراضنا، وخير وحسنة لدنيانا وأخرانا، وسلم وأمان ورحمة للبشرية كلها.
وأن الإشكالية لدى معظم المسلمين اليوم هي الخلل في الفهم والفكر، والتصورات، وأن فقه الميزان بالصورة المستنبطة من القرآن الكريم هو المعيار -بإذن الله تعالى- لضبط موازين الأمة والنهوض بها.
لقد نجحت السياسات المتسيدة بالإكراه على رقاب الشعوب في تكوين ذائقة مخربة للدين وللدنيا، ذائقة تختصر إسلامنا بثلة من الأفعال المنفعلة التي تصر على وأد الحريات العامة والعودة بالحياة الى العصور المتخلفة وحرق المجتمعات الداخلية وتدمير الغرب وحضارته ومحاربة المرأة والقوانين والأقليات، وهذا ما لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
التكفير ليس من شيم أهل العلم، وقصور الوعي ليس فقهاً، والتصلب في الايدلوجية الدينية لا يعود إلى الدين بل إلى حاضنة سياسية وغش ثقافي وضمور في الوعي
ما نؤمن به أن أمجاد الدين ورضى رب السماء لا تقوم على حساب خراب عمران الأرض، وأن الله تعالى لم يتعبد الخلق بنصوص تنزل العنت بهم، بل جاء الدين في سياق يحمي إنسانية الإنسان ويعلي من كرامته ويقيه مكر الكبار من الأشرار.
يؤسفني أن أقول:
إنني لست مرتاحاً لواقع بلور صوراً عنيفة للإسلام وشجع على مناكفة الدين، ليس لأن الدين يحمل سيفاً ولا لأن نصوصه تبيح وتتيح للمتطرف فعله، إن الجماعات السائدة "المتشددة أو المتميعة" قد فقدت بوصلتها نحو الحق، لأن سفنها تسير بدون ميزان دقيق، ولا منهاج عميق وفقه وثيق، بل قاموا بتقطيع القرآن، أي فرقوا بين آياته، واختاروا منها ما يريدون، وتركوا الباقي، بينما كتاب الله جامع يُفَسِّرُّ بعضه بعضاً، وذلك وفق الميزان الصحيح وفقهه العميق.
يقول الإمام ابن تيمية: فإن من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
إن إدراك الأوصاف المؤثرة، والأحوال المعاشة المقتضية تطبيق حكم الشرع، وكذلك وزن النصوص ووضعها في الميزان الصحيح، يثمر حالة أرقى وأنقى وأتقى للدين وللحياة.
يجهل الكثيرون من المتدينين ما يسمى بتنقيح المناط وتخريجه، وتحقيقه، ضمن فقه النّص والواقع والتوقع، وفقه التنزيل، وفقه المآلات، ذلك أن فقه الواقع يتأسس على:
1- فقه واقع النص "الإحاطة به من كل جانب وتخريج مناطه، وتنقيحه".
2- فقه واقع تطبيق النص "تحقيق المناط وتنزيله على الواقع بدقة متناهية".
3- فقه المقاصد والمآلات.
كل هذا يتطلب ميزاناً دقيقاً وعادلاً كي يتحقق المراد مما قاله الله وطبقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعمق المعرفة الكاملة لفقه النص ولفقه المحل معاً، لما في هذه المعرفة من أهمية في تنزيل الحكم على الواقع. وهو ما اشترطته في حواراتي مع بعض العلمانيين، كما ذكرت في كتابي "فقه الميزان" أننا إذا تكلمنا عن الإسلام فلا بد أن يكون من خلال نصوصه الصحيحة المحكمة الصريحة ودلالاتها الواضحة حسب زمن التشريع.
إنني أضع بين يدي الأمة هذا الكتاب بعد تجربة عميقة وطويلة في العمل الإسلامي، وأرجو أن يكون بداية ونواة علم ومعرفة تنتقل بالأمة في محاكماتها من حيز التطفيف الذي أفضى الى دمار مروع إلى الوزن العدل الذي يحقق أمن المجتمعات ومقاصد الدين.
إن قوله تعالى: "وَيۡلٌ لِّلۡمُطَفِّفِينَ"، لا يمكن اختصاره في الأوزان الحسية، بل في التصورات والأحكام والمشاعر والأفعال. إنني أهدف من الميزان لإمداد العقل المسلم بما يخرج النص من التجربة التاريخية والإطار التقليدي الفقهي، أو من عالم المثال، إلى تجسيد الواقع حيث لا يكتفى باللهج بالألسنة بأن الدين هو الحل أو الدين هو دين التسامح، بل لا بد من تطبيقات عملية تسقط على الواقع المثخن بجراحه".
حيث تعاني مجتمعاتنا من أزمتين متكاملتين:
- أزمة داخلية تتمثل في التفسيرات المتناقضة والمتضاربة للنصوص الشرعية، وبالتالي فقدان الثقة بها لدى البعض، واختلاق صراعات مختلفة، لو طبق فقه الميزان لما وقع كل ذلك.
- أزمة خارجية تتمثل في الصورة المشوهة، بل المسيئة، للإسلام التي أحدثتها الصراعات الداخلية، وتصرفات الجماعات المتطرفة أو المتميعة وتفسيراتها للإسلام.
ويأتي دور فقه الميزان لكشف هذه التفسيرات الزائفة، وإبراز دُرر الإسلام وتوازنه، ولترسيخ المنهاج الصحيح لفهم شريعة الإسلام وتنزيلها على الواقع.
دامت فكرة التأمل في الميزان وتطبيقاته أكثر من ربع قرن، كما كان لوقع الأحداث الجسام في السنوات الأخيرة الدافع الأكبر لضرورة تأصيل هذا الفقه الأصيل. لقد زادت حدة الصدام والاختلاف الذي لم يكن بريئاً ونتج عنه ما لم يعد خافياً على أحد.
ولذلك يتحتم، بل ويفرض على القلة الناشطة دينياً أو النخب الإسلامية تحمل مسؤوليتها، فالتكفير ليس من شيم أهل العلم، وقصور الوعي ليس فقهاً، والتصلب في الأيديولوجية الدينية لا يعود إلى الدين، بل إلى حاضنة سياسية وغش ثقافي وضمور في الوعي تفقد العقلاء الإمساك بالميزان.