فرنسا واللاعبون المهاجرون

في مباراة نصف نهائي مونديال قطر 2022 بين المغرب وفرنسا، كان المقهى مكتظًّا بالمشجعين، ومن لم يجد مقعداً ظلّ واقفا أو جلس على الأرض، كان التوتر سائدًا، والأعصابُ مشدودة، والنادلُ نسيَ الطلب مرّات عدّة لأنه وقف مشدوها أمام شاشة التلفاز، وهو يصرخ "يلّا يا زياش".

هذا الشعور الذي لم نعتد عيشه في النسخ السابقة من كأس العالم، فقد كُنا دائما ما نختارُ فريقًا آخر نشجعه، لدولة ربما لم نزرها، أو دولةٍ استعمرَت جزءًا من عروبَتنا، أو دولةٍ فقيرة مالت إليها عواطفِنا فشجعناها، لكنّنا وللمرة الأولى لم نكن منقسمين في المقهى نتبادل الشتائم، ولم ينتظر أيّ منا انكسار الآخر، ولم نحتج أن نسأل بعضنا "أي فريق تشجع؟" فالجميعُ يقف مع المغرب، كُلنا "عربيٌّ" دون تخطيط مسبق، حتّى إنه وفي محاولةٍ لفرنسا لتسديد هدفٍ ضائع، صرخ شاب عند طاولة قريبة "غول!" بصوتٍ حماسي خجول، فالتفتنا جميعنا إليه نصرخ "أنت مع مين؟" ولم أسمع صوتَه طوال المباراة، أظنّه شعر بأنه خارج عن الصف الوطني!

مباراتانِ متبقيتان فقط أعادتانا إلى النسخ القديمة من كأس العالم، لكن الفرق هنا أننا أصبحنا مشجعين بنسخٍ أخرى، لدينا الحق باختيارِ فريقِنا الذي نشجعه، ومثل مَا تحتفي الأرجنتين بجمهورها المهيب الذي حضر نهائي كأس العالم، فإننا بِتنا نحتفي بجمهور المغرب المهيب من كُل صوبٍ عربيٍّ أو أفريقي. وكُنا قادرين على تذوق حُلوِ النهائيات في أجواء المونديال التي لم نعشها من قبل، وشعرنا لبرهة أن الحلم انتهى حين فازت الديوك على أسود الأطلس، نقرَتها بهدفين نظيفين، لتخرج المغرب من نهائي كأس العالم، وتخرجنا من نشوة النصر العربي، لكنّنا لم نتنصّل أبدًا كجمهور عربي من دعمِ المنتخب المغربي بعد خسارته الأخيرة، بل كان دعمُنا مضاعفًا تأكيدًا على قوّة أدائهم خلال المونديال وتقديرًا لجهودِهم.

لماذا لا نشجع فرنسا؟

حصدت فرنسا أول كأسٍ لها في مونديال 1998 بثلاثة أهداف نظيفة أمام منتخب البرازيل، حيث أحرز جزائري الأصل زين الدين زيدان هدفين لصالح الديوك الفرنسية، وفي عام 2018، أعادَ ثلاثةُ مهاجرين الأمل إلى فرنسا حاصدين كأس العالم بأربعة أهدافٍ في شباك كرواتيا مقابل هدفين اثنين، لكنّ الاحتفالَ والمجد والتهاني والزغاريت ذهبت لصالح فرنسا ولم يكن للجزائر، البرتغال، غينيا والكاميرون، وهي أصول اللاعبين الذين سدّدوا الأهداف، أي نصيبٍ من التهاني.

وإن عدنا قليلًا إلى الوراء، ففي عام 1958، كان الفريق الفرنسي من أقوى المرشحين للفوز بكأس العالم في السويد، لكنّ أربعة من أبرز لاعبيه انسحبوا من الفريق قبل شهرين فقط من بدء المونديال، وهم لاعبون من أصول جزائرية، بخطة من جبهة التحرير الوطني التي كانت تقود الثورة في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي منذ عام 1954، وهكذا خسرت فرنسا بغيابِ لاعبيها من دول تستعمرَها، قبل أن تنجح الثورة الجزائرية في طرد المستعمر الفرنسي وإعلان استقلال الجزائر عام 1962، وهو العام نفسه الذي لم تكن الديوك فيه محظوظة إذ لم تتأهل لكأس العالم الذي أقيم في تشيلي آنذاك.

في عام 1958، كان الفريق الفرنسي من أقوى المرشحين للفوز بكأس العالم في السويد، لكنّ أربعة من أبرز لاعبيه انسحبوا من الفريق قبل شهرين فقط من بدء المونديال، وهم لاعبون من أصول جزائرية، بخطة من جبهة التحرير الوطني التي كانت تقود الثورة في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي منذ عام 1954

فرنسا الديمقراطية في الحاضر

وإن حاولنا أن نغفِر "زلّات" فرنسا واستعمارَها المهين في الماضي، وحاولنا النظر إليها بعينٍ بيضاء لرؤية إيجابياتها كدولة ديمقراطية متقدّمة، فإنها مصرّة على أن تطيح هذه الصورة الزائفة قُبيل نهاية المونديال، الذي نافسَت في نهائياته بشراسة للفوز باللقب، قبل أن يطيحها المنتخب الأرجنتيني في مباراة أقل ما توصف بـ"الجنونية".

فبالرغم من أن المهاجرين من أصول أفريقية وغيرِها في فرنسا، قد جلبوا لها كأسي العالم عامي 1998 و2018، إلا أنه وقبل شهرٍ واحد من انطلاق مونديال 2022، صرّح وزير الداخلية الفرنسي: "بناء على تعليماتي، فإن الشرطة تبدأ هذا الصباح في التفكيك النهائي لـ"معسكر الكراك" في ساحة فورسيفال في باريس، سيتم نشر 1000 ضابط شرطة حتى لا تتم إعادة تكوين هذا المخيم في مكان آخر.. لحظة مهمة لاستعادة النظام العام في باريس".

وقُبيل يومين فقط من المباراة النهائية لكأس العالم، التي شارك فيها مُهاجرون حاربوا في الملعب بكُل ما أوتوا من مهارةٍ ولياقة وقوّة، لرفع اسمِ مُستعمرِ بلادِهم عاليًا، وعلى رأسِهم كِليان مبابي هداف كأس العالم 2022، يناقش الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقديم مشروع قانون للهجرة تلفّه مخاوف حقوقية من أن يتضمن عمليات "إعادة قسرية غير قانونية" للمهاجرين وطالبي اللجوء.

هذا كله يؤكد أن الرياضة لا تغفِر زلّات الحكومات، ولا يمكن التغاضي عنْها لمجرّد كفاءة الفريق، خاصة إن كان منتخبًا ممثلاً عن دولةٍ في كأس العالم، وليس نادياً رياضيّاً متعدّد الجنسيات.

"إذا فازوا فهم منهم، وإذا خسروا فهم مهاجرون".

انتهى كأس العالم بتتويج الديوك الفرنسية وصيفًا بعد مباراة جنونية مع راقصي التانغو، لتكشف العنصرية عن أنيابِها أمام أصحاب البشرة الداكنة من لاعبي المنتخب الفرنسي، أوريليان تشاويميني، كينغسلي كومان وراندال كولو مواني، حيث أضاع أوريليان وتشاويميني ركلتي ترجيح في النهائي، فيما أهدر مواني فرصة تسجيل هدف في آخر دقيقة من الشوطين الإضافيين، لتمتلئ حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بالانتقادات اللاذعة والعبارات العنصرية والتشكيك في انتمائهم مع رموز تعبيرية على شكل قردة، ولم تكتف بعض الجماهير "العنصرية" بصب غضبها على اللاعبين الثلاثة، بل دعت من خلال التعليقات إلى ترحيل أحد اللاعبين إلى أفريقيا، ما اضطرهم إلى إغلاق التعليقات لاحتواء هذا الهجوم العنصري سريعًا.

أما كيليان مبابي الذي حظي بكُل الدعم بعد الخسارة، فقد تعرّض سابقًا لهذا الهجوم العنصري عندما أهدر ضربة جزاء أمام سويسرا عام 2020. كما نال جزائري الأصل كريم بنزيما نصيبه من العنصرية الفرنسية، حيث أدلى أكثر من مرّة عن رضوخ مدرب الديوك الفرنسية لما سماه بـ"ضغوط عنصرية".

يمكن الحد من الخطاب العنصري الموجه ضد اللاعبين المهاجرين في صفوف المنتخب الفرنسي، من خلال خطاب إعلامي قوي وإغلاق التعليقات أو "فلترتها"، وادعاء الاتحاد الفرنسي لكرة القدم باحتوائه الاعبين، لكن من سيُسكت هذا الصوت المتردّد صداه في نفوس لاعبين بذلوا جهدًا مضاعفًا لتحظى "بلادٌ لم تتقبلْهم" بفرصة الفوزِ في المراكز الأولى؟!