الشك ليس وجهاً آخر للغيرة
لطالما أحببنا نزار قباني، نحنُ الفتيات الباحثات عن الحُب الرومانسي في مُجتمع عربي يخجلُ فيه الرجل من إظهار رومانسيته خوفاً من المساس برجولته رُبما، بينما يجهرُ بكلّ ما أوتي من طاقة بسُلطته على شريكة حياته وفرض جبروته عليها وإشعالِها بنار غضبه حين يغارُ أو يُجن. ولست أدري ما الحقيقة من وراء ذلك، لكنّه كان سبباً دفعنا لأن نغرق في قصائد القباني، سواء بقراءتها أو الاستماع للساهر وهو يدندنها بمشاعره المترفة، لنجد الذرائع لأحبائنا كُلّما صدر منهم فعلٌ يُزعجنا، بأنّ الدافع وراء أفعالهم هو الحب والغيرة فقط، لكنّني، وبعد أن حظيت بشريك مُراعٍ ومُحب، أتمنى لو تُدرك النساء حقيقة أن الحُب الذي يفتقر للثقة لا يعدّ حُباً، والشك ليس وجهاً آخر للغيرة.
كُنت أصغر سنّاً حين أغرمت بما قاله الشاعر نزار قباني "أحبك/ لا أدري حدود محبتي/ طباعي أعاصير/ وعواطفي سيل/ وأعرف أني متعب يا صديقتي/ وأعرف أني أهوج/ أنني طفل/ أحب بأعصابي، أحب بريشي/ أحب بكلي/ لا اعتدال، ولا عقل". الآن، حين أغوص في كلماته أخافُ من مبرّرات وضعها لنفسه وللرجال بعده، وأفكر بكُلّ اللواتي صدّقن ما قالته جدّاتنا الحالمات "زوجوه بعقل"، فتزوجنه ولم يعقل!
تُقتل النساء بسبب "الغيرة" وغالباً لا تكون هذه أول مرّة، فهو لا يستيقظ من النوم مقرّراً قتلها فجأة دون مقدّمات، إذ بعد سلسلة حوادث ضرب وتنكيل يتذرع خلالها الأهل والجيران بأنّ العصبية مشكلته، وهي طريقته الوحيدة للتعبير عن "الغيرة"، ثم تُقتل أخيراً دون رادع، وإن غضضنا الطرف عن القانون الحامي لعُنف هؤلاء الرجال، فلننظر إلى المرأة ذاتها التي تتغنّى بحُب رجلها لها وغيرته الجنونية، بلا إدراك بأنّ جوهر الحُب الثقة بين الطرفين، ثُم تأتي بقية الأشياء تباعاً.
كثيرات هُن اللواتي يُدركن المفارقة الكبيرة بين الشك والغيرة، لكنّ قلّة من صرخن رافضات لأن يُوضعن على كُرسي الاعتراف طوال حياتِهن
إحداهن قالت لي: "طلب هاتفي وعندما لم يعجبني الأمر، اتهمني بأنني تعرفت على رجال قبله، لقد قال الكثير من الكلام الجارح، أفهم أنه يغار عليّ، ويجب أن أتخذ موقفاً، لكني لا أريد إنهاء هذه العلاقة". وبعد محاولتي إقناعها بأنّ هذا يسمّى شكّاً، وكيف ستدافع عن نفسها حين سيغلق عليهما باب واحد، وبأنها ستلد بنتاً وربما لن تستطيع حمايتها من جنون والدها إن لم تنل ثقته، فكان ردّها بأنها تنتظرُ مبادرته!
كثيرات هُن اللواتي يُدركن المفارقة الكبيرة بين الشك والغيرة، لكنّ قلّة من صرخن رافضات لأن يُوضعن على كُرسي الاعتراف طوال حياتِهن، وبعضهن يرى بأنّ غيرة أزواجِهن المُفرطة تجعلهُن يشعرن بأنهن يعشن في كنف رجلٍ يحسُّ بأنوثتهن، ويخافُ عليهن من أعين الرجال.
لكنها مفارقة كبيرة بين المصطلحين وكيف يقودان العلاقة الزوجية إلى الاستقرار أو الهاوية، فلا يُمكن لامرأة تحت المجهر، مشكوك في كُلّ أفعالِها، عليها دائماً أن تُبرّر نفسها أمام شريك حياتها، خائفة وقلقة من أن تُفهم بشكلٍ خاطئ فتشتعل نارُ "غيرته" عليها، تقف دائماً على منصّة الاتهام، وعليها أن تخلق حجّة غياب أمام قاضيها، بسبب انعدام الثقة، أن تبني عائلة مفعمة بالحب. أما الغيرة فهي غالباً ما تكون شعوراً متبادلاً بين الطرفين، وتتشكّل عنه ردّة فعلٍ لحظية، دون أن يُقلّل أحدهما من احترام الآخر، أو التشكيك بحُبه وأخلاقه، وهو ما لا يمسّ بقُدسية الحب.
الثقة هي أساس العلاقات الناجحة، والحب المجرّد منها ليس حُبّاً
ولأكون منصفة، فإنّ للمرأة نوباتٍ من الغيرة والشك، قد تقلب بسببها المنزل جحيماً لا يُطاق العيش فيه، حين تنسجُ من خيالاتها ما تُترجم به أفعال زوجِها، خائناً مع امرأة أخرى لم ترَها، فتُفتش أشياءه وتشم ثيابه وتتجوّل في هاتفه، وقد تُراقبه إن خرج فتحسبُ له غيابه وتُجلسه على كُرسي الاعتراف لأنه مُتهم بخيانة رُبما لم يفعلها، إلا أنّ الشك لديها يكون قد اختلط بالغيرة، وتصيرُ كما قال القباني: "مزّقت أجمل ما كتبتُ وغرتِ حتى من ظُنوني/ وكسرتِ لوحاتي، وأضرمتِ الحرائق في سكوني/ وكرِهتني وكرهتِ فنّاً كُنتُ أُطعمه عيوني".
علينا أن نُجرّد الغيرة من الشك، فالثقة هي أساس العلاقات الناجحة، والحب المجرّد منها ليس حُبّاً، فالأمان هو ما سيجعلُك صادقاً دائماً، حين تتمكن من البوح بكُل ما يجول في خاطرِك، دون أن تُراكمه في مُخيّلتك لتنسج منه خيالاً يُبدّد ثقتك بمن تُحب.