غزة... أحزانٌ من نور ونار
"يكاد قلبي ينفطر"، عبارة قرأها المرء كثيرًا في حياته، في رواية ما، أو في منشورٍ على واحدةٍ من وسائل التواصل، ولكنّي ما كنت أعرف معناها حق المعرفة إلا هذه الأيام ربّما.
نعم إنّ قلب أيّ إنسان حقيقي، وقلب أيّ مؤمن، سيضطرب مما رآه في الأيام الماضية، ولكن المشاهد التي تتدفق منذ انطلاق العدوان على غزة كانت فوق كلّ تصوّر، وأحيت في ذاكرتي صورًا قديمةً جدًا، قد ظنّ المرء منّا أنّه تجاوزها، ولكنه يكتشف أنّها ما زالت باقية تختبئ في ثنايا الذاكرة، ومع كلّ صورة جديدة من أرضٍ جديدة، يمارس الاستعمار الغربي قتلنا كهواية شبه دورية، بيديه حينًا، أو بأيدي وكلائه من الجلاوزة والطغاة أحيانًا أخرى، فما أطفالنا عنده، إلا "أبناء الغاب المتوحشون الظلاميون"، بتعبير رئاسة وزراء الاحتلال النازية.
نعم كاد قلبي ينفطر بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، فقد شعرت بأنّه سيخرج من مكانه، وقد اضطرب اضطرابًا شديدًا، فالصور القادمة من غزة تفوق التصوّر، شديدة الوقع والتأثير، وأكثر إيلامًا بألف مرّة ومرّة، مما يمكن أن يُكتب أو يُقال، ومع كلّ ما نشعر به ونتكبّده، ونحن بعيدون عن الأحداث، هو بكلّ تأكيدٍ أقلّ بكثير من وقع هذه الأهوال على الشعب الفلسطيني الصامد المرابط في غزة، الذي يواجه هذا العدوان وحيدًا من أيّ عونٍ ودعم، وإنّي أزعم أنّ كلّ ما تحمله لغتنا الباذخة من تعابير ومعانٍ تقصر عن وصف ما يكابده الفلسطينيون في غزة، والسلوان في كلام الله تعالى ليس إلّا..
سيلٌ من الصور والمقاطع التي تُظهر أطفالًا صغارًا، إما شهداء لا حراك فيهم، أو جرحى مضرّجون بدمائهم، وبعضهم (إن قدّر الله له النجاة) صامتٌ مشدوه، لا يكاد ينطق جملًا بعينها، في عينيه خوفٌ قديم، كقدم ظلم المحتل في بلادنا، فقد فتح عينيه على الدنيا وهو في أتون حصارٍ مرير، وحروب لا تُبقي ولا تذر، وفوق كلّ ذلك يتعرّض لهذا القصف الشديد منذ أيام، بل ويغضّ العالم الطرف عن المجرم، ويريد أن يحمّل الضحية الجريرة.
كلّ ما تحمله لغتنا الباذخة من تعابير ومعانٍ تقصر عن وصف ما يكابده الفلسطينيون في غزة
وفي الحديث عن الأطفال، فإنّ كلّ واحدٍ منّا يتطلع لتلك اللحظة التي يحمل فيها أطفاله بين يديه، فهي لحظة استثنائية فريدة، أن يحمل المرء بضعةً منه وقبسًا من روحه وفؤاده، وكم تُفتّت فؤاد كل أبٍ وأمّ، صور ذلك الرجل الذي حمل أطفاله بعد مجزرة مشفى المعمداني، لم يحملهم شهداء بين يديه، يستطيع لثم جباههم، ويتحسّس بشرتهم الغضّة الباردة، بل حملهم أشلاء وقطعاً صغيرة، وضعهم في أكياس بلاستيكية وجدها على سرعة وعجلة، وهو يصرخ مشدوهًا "أولادي.."، والعالم يصمّ عينيه وأذنيه عنه وعن آلافٍ من أمثاله، ويمدّ القتلة بالقنابل الفتاكة، ويرسلها على عجل، كي لا يتراجع عدّاد القتلى بعض الوقت.
لقد شبّ جيلنا على مشاهد الأهوال، ولعمري سينشأ الجيل الحالي على المشاهد ذاتها، ولكن الشرارة ستنتقل إلى عينيه، والثأرٌ باقٍ في النفوس ما بقي محتلٌ وغاصب، فقد نبشت مشاهد العدوان على غزة صورًا قديمة مختزنة في أعماق ذاكرتي، من استهداف ملجأ العامرية في العراق، ومن ثمّ مشهد الشهداء في مجزرة قانا، وحروب الولايات المتحدة القذرة في أفغانستان والعراق، وآلاف الصور من استهداف حلب وحمص والغوطة، وغيرها الكثير الكثير، يخزّنها عقلنا الباطل، للحظة التفجّر القادمة، فهذه الآلام لا تكسرنا، بل تدفعنا للانفجار في لحظة لا رجعة بعدها ولا أوبة.
نعم لا يمكن اختصار الألم والحزن في كلمات مجرّدة، ولا يمكن للمرء وصف حزنه أو حزن الآخرين مهما علا كعب بيانه ورقّت عباراته، فما قرّ في القلب خفايا لا يشعر بها إلا صاحبها، ولكنّنا نكتب لا لنستريح قليلًا، بل لنسجّل أوجاعنا وأوجاع المكلومين المظلومين، نسجّل هذه اللحظة بالحروف، علّنا في زمن الانتصار القادم، نمحو ما كتبناه هنا بكلمات تمجّد الشهداء وتمدح المنتصرين، نزيل هذا بذاك، وتكون خواطر في هذه اللحظات الدقيقة بشائر من نور ونار، نورٌ للسالكين في درب المواجهة، ونارٌ على الجلاوزة المحتلين.