يشتمون فرعون ويقومون بأفعاله!

31 مايو 2024
+ الخط -

لقد شغلتني الحادثاتُ عن ضربِ الكتابة هذا، فعظيمُ الرزءِ في غزّة يفوق كلّ ما يتصوّره المرء، ومِحن الدنيا مهما كانت تتصاغر أمامها... وإنّي لا أكتبُ مفاخرةً، أو إظهارًا لأزمةٍ ما، ولكنها نظرات خرجت من رحمِ الواقع، وصور عشتُ بعضها وخبرتُ بعضها الآخر، فوددت تقييدها كتابةً، ففيها ملامح عن النفس البشرية وصور من وجوهٍ أخرى من الإنسان، بعيدة عن التمجيد والتعظيم والكفاح، ففيها شيء من اللؤم والدناءة والسفه.

وقد أزمعت أن أكتب نصين في موضوعين مختلفين، ولكني هنا أدونهما مجتمعين، وإن عدتُ إلى ما كتبت لاحقًا أعيد النظر، موافقًا أو مغيّرًا..

"فقال أنا رَبُّكُمُ الأعْلَى"

لقد قالها فرعون، وما زلنا نردّدها في القرآن الكريم، وقد ظنّ ذلك الهالك أنّه يستطيع بجبروته وتكبّره أن يسيّر شؤون الناس كأنّه "إله" يُعبد، فإن قال سمع الناس له وأطاعوه، وإن طلب كانت كلماته أوامر لا محيد عنها، فهو فوق السلطات، بل واضعها، إلى آخر ما حملت شخصية "الفرعون" من نزقٍ واستعلاء، ولكن السؤال الملح، هل هي شخصية خاصة بفرعون موسى عليه السلام؟ أم هو تصنيف أصيل موجود في الإنسان منذ أن خلق الله الأرضَ وما عليها؟

لن أقول إنّني أطلت النظر، وشغلت الفكر لأصل إلى هذه النتيجة، فالنماذج موجودة، ولا ضرورة لنوردها في التاريخ القديم أو الحديث، وعن الأشخاص في مختلف الأماكن الذين يرون أنفسهم لا يحيدون عن الجادة، وأفكارهم "البطولية" كتبٌ منزلة، وغير ذلك، من الذين يتحوّلون إلى فرعون يقتل ويسجن ويحرق المدن بأكملها، إلى الذين يُقصون بسيفِ الكلام والتهميش، والإقصاء، ولكنني هنا أريد أن أتحدّث عن هؤلاء الذين يتجبرون ضمن بيئةٍ صغيرة، وإطارٍ ضيّق، في الأسرة مثلًا أو العمل، أولئك ليسوا نجوم الشاشات، ولا تورد أخبارهم في الصحف وعلى نشرات الأخبار، ولكنهم يقتلون اللحظات، ويسومون من حولهم سومًا خفيًّا من الظُلم، أو الاستعلاء إن أردنا الدقة.

ثمّة من يقتلون اللحظات، ويسومون من حولهم سومًا خفيًّا من الظُلم، أو الاستعلاء

ولأنّني لست إلّا ناظرًا، وفي هذه القضية ومتأملًا، سأسجل بعض الملاحظات، أو بتعبيرٍ أدق السمات، والتي لمستها عند هؤلاء، فمنهم من تجد فيه كلّ ما سأذكره، ومنهم تلحظ لديه صفةً أو أكثر، ومن اجتمع فيه جميعها، كان أشدّهم على الناس، وأكثرهم أذيةً وصلفًا:

الأولى، محرّك لكلّ من حوله، تجد في أضراب هذه الشخصيات، أنّه يرى نفسه المحرّك الأصيل لكلّ من حوله، فإن وجدَ شيئًا مفيدًا يحمل عليه أقرانه، وليس بالضرورة أن يُحرّك بالاتجاه الصحيح، أو يدفع نحو التصرّف الرشيد، فما هي إلا انطلاقة ذاتية، وميلٌ نزع في قلبه قبل عقله، فهو الأجدر في كلّ رأي، والأقدر على اتخاذ القرارات، وكلّما كانت دائرةُ تأثير هذا الشخص أكبر، استطال في تحريك الناس، فالرأي ها هنا ليس معرّضًا للنقاش والبحث، بل هو قول فصل، لا يتطلّب من الآخرين إلا الموافقة عليه وتمجيده، وليس بالضرورة أن يكون التحريك ها هنا سلبيًّا، أو فوقيًّا أو مستعليًا، فكثير من هؤلاء يستلّون سيف الحياء، ويستخدمون موقعهم إن في الأسرة أو العمل أو مواقع التأثير الأخرى ليجبروا من حولهم على القيام بما يريدونه ولو كان خطأ.

الثانية، بعيدٌ عن الخطأ، بعيد عن الاعتذار، وربّما تكون هذه سمة بالغة الدلالة، تراها كثيرًا عند الناس، ولستُ أعني هنا من يمثّل (أو يرى نفسه لا أدري) أنّه ضحيةٌ للآخرين، بل عن أولئك الذين يتخذون قراراتٍ خاطئة، جرّاء معطيات زائفة، أو بالغة الشخصية، ولكنّهم وعلى الرغم من الخطأ الذي وقعوا فيه، يصرّون على الاستمرار به، بل يسوغون أفعالهم بكلِّ الأسباب الممكنة، لا لشيء إلا لكي لا يقدّموا الاعتذار عمّا بدر منهم، فهو لم يخطئ لذلك لا يحتاج إلى الاعتذار، وإن اضطر إليه لمصلحة ما، فلا يقرب منه مباشرة، بل يعود متلطفًا، متجاوزًا الفعل القبيح، إذ يُعتبر أنّه من خلال تلطفه، قد تجاوزَ الفعل السيئ الذي قام به.

البعض من الناس، وعلى الرغم من الخطأ الذي وقعوا فيه، يصرّون على الاستمرار فيه، بل يسوغون أفعالهم بكلِّ الأسباب الممكنة

الثالثة، متفضّل دائمًا، وهي من علامات هذه الشخصية، التي تفترض أنّ وجودها في حياةِ من يُحيط بها من أسبابِ السعادة والسرور والحبور، وهو متفضلٌ عليهم، بل يمكن أن يمنّ على الجميع بأشياء غير مرئية، وبكلّ تأكيد لا يراها سواه. فيريد الاهتمام، واللطف والصلة والحبّ والودّ والهدية، وكلّ ما في العلاقات من حسنات وفضائل، ولكنه في المقابل لا يقدّم شيئًا، لا مما سبق ولا من غيره. وهو يريدُ من الموقع الذي يشغله في الأسرة أو العمل أو الصداقة أو غيرها، أن يحصل على المغانم، ولا يلتفت إلى المغارم، وإن انفضّ الناس من حوله، لهذا الاستنزاف الذي يمارسه في حقهم، ينتفض مُكشِّرًا عن أنيابه.

الرابعة، لا أريكم إلا ما أرى، تشبه النقطة الأولى إلى حدٍّ ما، ولكنها هنا مرتبطة أكثر بالرأي، بالتفضيلات الشخصية، لما يحبّه من كلّ شيءٍ من الطعام والشراب والملابس حتى التقنيات، فكلّ ما يحبّه هو طيبٌ مرغوب مطلوب، وكلّ أمرٍ لا يراه مناسبًا، أو يمقته، فيجب أن يُمقت، أمّا إن بان له خطأ ما مال إليه، فهو البعيد عن الخطأ البعيد عن الرجوع إلى الحقيقة، وليس الحق فهي تفضيلات شخصية لا أكثر.

الخامسة، الجميع طوع ليديه، لن أخوضَ كثيرًا في هذه النقطة، ولكن استخدام هذا الصنف من البشر للآخرين، واضحٌ جليّ، فالمصالح تحكمهم أكثر من أي قضية أخرى، ويطوّعون الناس لمصالحهم بطرقٍ خفيّة، وأساليب ماكرة، ما يجعل المغبون يشعر بالغبن مرّتين، الأولى عندما يعرف أنّه قد استنزف من غير وجه حق، والثانية، أنّ المستفيد لم ينزل من برجه العاجي، ليؤدّي الشكر المطلوب على الأقل، فيصبح كمن استُخدم في السخرة ليس إلا...

كنتُ أريدُ أن أحدثكم عن أمور أخرى، إلى جانب ما سبق، ولكنّني أكتفي بما كتبته آنفًا، فقد أطلت وأكثرت، فأعوذ بالله من شططِ النفس، وتغوّل الإنسان، وغوايات المناصب والمواقع والتسلّط، وأعوذ به من أن نكون كمن نكتب عنهم، ونحذر منهم، وما بغيتي ها هنا إلا أن أسجل تأملات وانطباعات، أمّا من يشعر بأنّه معني بشيء أشرت إليه هنا، وأنّه مقصود فلن أقول له لم أقصدك مباشرة، بل سأقول راجع نفسك، وأعد النظر في ما تقوم به، لكي تكون إنسانًا حقيقيًّا، ولست إنسانًا مزيّفًا...

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".