عِراك في ساحة الجسد
تتنازع فيّ منذ وطئتْ قدماي هذه البلاد شخصيتان، شخصية تمارس حياتها كأيّ كائنٍ بليدٍ في هذا العالم، هي تؤمن بأنّ هذا العالم بليد، ولا ينفع معه سوى البلادة، استيقاظ ثم عمل ثم عودة من العمل في دورة حياة لا تنتهي وروتين مكرور، وشخصيةٌ أخرى تجلس هناك في حارة نزح سكانها، وغدت ذكريات متطايرة، تلملم من شوارعها قصصاً وحكايات، وتستمع للمغني ياس خضر وهو يدندن "على شط الفرات تهيم موجات الأمل بيا"، جاعلاً خلايا الروح تلامس الأبدية.
تتعارك هاتان الشخصيتان على احتلال جسدي كما تتعارك دولتان على قطعة حدودية، سجال ومناوشات، يشبه ما يحدث على كوكب الأرض من معارك عدمية تعقد فيها آلاف المؤتمرات في صالات فاخرة وفنادق فارهة، وتصدر فيها عشرات البيانات المكتوبة بلغة أدبية رصينة، لكن الواقع لا يعرف طريقاً للهدنة أو وقفاً لإطلاق النار.
أما الشخصية الأولى، فتعيش جسداً وروحاً في ألمانيا، مفتونةً بها وبنظامها وانضباط أهلها وهدوئها الفريد، شخصية غارقة في اللحظة، تحبّ الغربة وتؤمن بالحاضر، وتكره الأخبار والسياسة والبلاد الحزينة، شخصية تغلف نفسها بغلاف "الآن وهنا"، ثمّة انشغال بالعمل، واستغراق في اللحظة الراهنة، ونسيان للإحداثيات، شخصية مهووسة مثل كلّ سكان هذا البلد بالعمل والتخطيط واحترام الموعد والقانون، فيها تبرّم الغربيين وفرديتهم ونزوعهم إلى الجديد والآني، هي تواظب مثلها مثل البقية على الاستيقاظ مبكراً والاتجاه للعمل في الوقت المحدّد دون تأخير أو تكاسل، وهناك تدردش مع زملاء العمل في استراحة الغداء حول الطقس والإجازات وحول مواضيع فارغة، ثم إذا ما حلّ الليل تذهب لتنظيف أسنانها ثم تخلد إلى النوم مبكراً مثل تلميذ نجيب.
جسدي الجالس في المنتصف والمتعب من التأرجح وكثرة التقلّب ينتظر نهاية العراك، هو لم يعد يكترث بمن سينتصر، ينتظر فقط نهاية لهذا العراك، أيّة نهاية
وأمّا الثانية، فتكره الحاضر والغربة وتلتفت إلى الوراء، بقلبها ورقبتها وروحها. هي لا تعترف بواقع، ولا بتاريخ، ولا بجغرافية، ولا بأيّ شيء آخر سوى العودة، العودة إلى هناك، إلى الماضي الذي رحل. هي ترى أنّ كلّ ما جرى ويجري قصةٌ مؤقتة وحالةٌ عابرة مثل حالات "واتسآب"، وأنّ الأمور ستعود أدراجها إلى بدايتها، إلى الحارة التي نزح سكانها، شخصية تمقت انضباط الألمان وجديتهم وبعدهم عن المرح، تمقت كذلك حبّهم للمثالية وهوسهم بالتدقيق والمواعيد، شخصية تحبّ البساطة والعفوية وروح الشرق البعيد المطمئن الراضي رغم فداحة الواقع، هي تعيش من ثمّ بنظامها الخاص الذي لا تحيد عنه، نظام قائم على الحرية والانفلات، ثمّة نهار عامر بالتراخي والغيابات والوصول المتأخر إلى العمل، وثمّة ليالي تعمر بالسهر والقهوة والمواويل وتصدح بأغانٍ قديمة لأم كلثوم وياس خضر وناصر عوّاد.
أولئك الذين لا يعرفون بأمر هاتين الشخصيتين يعجبون من تناقض أقوالي، ويحسبونني مهرطقاً أو محض كاذب. فمرّة أطنب في مديح ألمانيا ومديح شعبها، وأقول إنّي سأبقى وفياً لهذا البلد الذي فتح لنا ذراعيه وراح يهدهدنا مثل الأطفال، مدعياً أنّه عالمي الجميل الممكن، ويوتوبيا أفكاري، ومرّة أنتقل إلى الطرف الآخر، فأذمّ هذا البلد وأذمّ جلافته وبريده وبرده القارس، وألعن اللحظة التي قدمت فيها إليه، منتظراً بفارغ الصبر اليوم الذي أشدّ فيه رحالي، عائداً إلى تلك الحارة التي نزح سكانها.
لكن في النهاية، يبقى جسدي، أو بالأحرى ساحة المعركة، هو الخاسر الأكبر من العراك، يتأرجح بين الحالتين ويتلوّن حسب نتائج الاشتباك، ويدندن معظم الوقت بشعر لمحمود درويش يقول فيه: "أنا من هناك، أنا من هنا، ولست هناك، ولست هنا". جسدي الجالس في المنتصف والمتعب من التأرجح وكثرة التقلّب ينتظر نهاية العراك، هو لم يعد يكترث بمن سينتصر، ينتظر فقط نهاية لهذا العراك، أيّة نهاية.