عن مستنقعاتِ الصمت والغربة
يخبرونك أنّ الليلة الأولى في الغربة تكون الأصعب، أنّك ستشعرُ بالغرابة في الأسبوع الأوّل، ستشتاقُ في الأسبوع الثاني، وتعتادُ بعد مرور شهر. ويُغفِلُ الجميع إخبارَك كيف تتجاوز الرحيل، وتعتاد الغياب، كيف تدفن أجزاءك الميّتة يوماً بعد يوم، وكيف تمضي وحيداً وجسدك هالك، تستجمعُ أشلاءك يوماً في إثر يوم مع موسيقى، ربّما تُرجِع إليك هُويّتك الضائعة.
نجتازُ المسافاتِ بمكالمةٍ، صوتاً وصورة، توثّق لنا أعراس أحبّتنا، ونجاحاتهم، وحفلاتهم وصخبهم؛ أمّا الحزن، فقصّته تطول. لا يخبرك أحد كيف تتلقى نبأ وفاة صديق طفولتك بحادث صدمٍ فاجع، أو دخول جدّتك غرفة العناية الفائقة، أو تدهور حالة والدك الصحيّة، وإصابة عزيز بالسرطان. لا يخبرك أحد كيف تقيم العزاء في الغربة، متى تنتحبُ، ومتى تنهار، وكيف تواسي نفسك بعد كلِّ انكسار. الموتُ صديقٌ داهمٌ في بلادي، والبعدُ عنها موت محتم.
الموتُ صديقٌ داهمٌ في بلادي، والبعدُ عنها موت محتم
قولوا للذين يظنّون أنّنا نسافر هرباً من الحياة أنّ الحياة هربت منّا؛ أنّ الاكتئابَ أنيسُ ليالينا، والقلق كابوسٌ يلاحقنا أنّى ذهبنا. نرى شيب من نحبّ، وجوههم وتفاصيلهم المنهكة، والخطوط التي يحفرها قهر البلاد على جباههم وتحت أعينهم، وما من شيء يعيدُ إلينا ما فقدناه من أرواحنا وأنفسنا، أو يعيدُ الذين فقدناهم ونحن في الصحراء التي اسمها، الغربة.
تتمدّدُ في المساء على الكنبة، تُوقظ التلفاز لتؤنسَ وحشتك، فيأتيك أحد ما بخطابٍ مفعم بالكراهية. يخبرك أنّ من يعبرون البحر في قوارب الموت مسؤولون عن مصائب بلاده كلّها. يزيد ذلك من يقينك أنّك في هذه البلاد رقم، تُختطف حياته وتُهمّش هويّته. تراقب سقف غرفتك الأبيض بصمتٍ وتسأل نفسك: أين أنا؟ من أنا؟ أين الوقت؟ أين روحي؟ تكتشفُ بعدها أنّك تركت روحك يومَ ألقيت الوداع الأخير على من تحبّ وسط زحمة الباحثين عن عيشٍ في مستنقعات الموت. في لحظاتِ الوداع، تكسرك دمعة أبويك، وتغلبك النظرات، كلّ النظرات الصامتة التي تحكي الكثير.