عام 2020... سنة كبيسة على أطباء مصر
عبارة "سنة كبيسة" في الوجدان الشعبي المصري تعني أنها كانت سنة طويلة كئيبة كلها هموم ومشاكل وأحزان، بغضّ النظر عن عدد أيامها، وإن كانت سنة 2020 قد شملت كلاً من المعنيين، فكانت طويلة بأيامها، مفعمة بأحاسيسها.
وكان الإحساس واضحاً عند جموع الأطباء منذ أول شهر في تلك السنة، حيت فوجئ الجميع بأن وزارة الصحة تتقدم ببلاغ للنائب العام ضد نقابة الأطباء، يشمل اتهاماً صريحاً بأن النقابة سبّبت إهدار المال العام وتبديد جهود الحكومة نحو تدريب الأطباء وتأهيلهم. وكانت المشكلة قد بدأت مبكراً منذ إصرار الصحة على إلغاء توزيع أطباء التكليف على وحدات الصحة بالريف والحضر، على أن يُلحَقوا جميعاً للتدريب بنظام الزمالة المصرية، وكان اعتراض الأطباء على أن نظام الزمالة طاقته التدريبية لا تتعدى ألفين فقط من الدارسين، في حين أن دفعة مارس 2020 تشمل أكثر من ثمانية آلاف طبيب، وبدأ الأطباء في عقد الجمعيات العمومية، والتظاهرات والاعتصامات، ولكن الحكومة أصرت على موقفها، وبقيت تلك الآلاف من الأطباء في الشارع دون عمل قرابة خمسة أشهر، رغم اجتياح وباء كورونا للبلاد، حتى أُجبِروا على التنفيذ، على أن يبدأ بعدها ترتيب وتوفير إمكانات التدريب بالزمالة، تطبيقاً لأسلوب وضع العربة أمام الحصان.
أطباء مصر عام 2020 بين مطرقة كورونا وسندان الحكومة
جاء وباء كورونا في نهاية شهر كانون الثاني/ يناير 2020 ليكشف عن حقيقة ضعف البنية التحتية وتراجع الجاهزية الطبية في مصر، حسب مؤشر GHS العالمي(Global Health Security Index) ؛ المعنيّ بتقييم مدى جاهزية دول العالم على مواجهة الكوارث بصورة العامة، والأزمات الطبية بصورة خاصة، وكانت مصر تشغل المرتبة التاسعة عربياً، وكان هذا يبدو واضحاً من عدم إدراك الحكومة لحجم الكارثة، حيث اكتفت بإعلان إخلاء أحد المستشفيات الصغيرة في محافظة حدودية، وإعادة تأهيلها وتجهيزها لتكون هي المستشفى الوحيد المخصص لعزل حالات كورونا وبطاقة استيعابية لا تتجاوز أربعين سريراً فقط، فيما تركت عشرات المستشفيات المتخصصة مثل الحميات (113 مستشفى)، والصدر ( 34 مستشفى ) بإجمالي 147 مستشفى صدر وحميات منتشرة بجميع أنحاء مصر. وما يؤكد ذلك، قيام مستشار الصحة الوقائية برئاسة الجمهورية في بداية شهر ديسمبر الجاري، يعني بعد قرابة عام من بدء انتشار الوباء، بالتصريح بأنه يوجد حالياً 77 مستشفى صدر وحميات فقط مؤهلة ومجهزة لمواجهة الجائحة، أي بنسبة نحو 50 بالمائة فقط من عدد المستشفيات. وفيما كانت التصريحات الرسمية تنفي انتشار الوباء في البلاد في شهر فبراير الماضي، جاءت التحذيرات من دول أوروبا وأميركا وآسيا بوجود العشرات من العائدين بالإصابة من داخل مصر، وهذا يعني وجود قصور شديد في إجراءات التقصي الوبائي، فضلاً عن فشل الترصد الوبائي لدخول الفيروس، خاصة أن الموانئ البرية والجوية والمنافذ البرية ظلت مفتوحة حتى نهاية شهر مارس 2020.
وبناءً على طلب من وزيرة الصحة للمواطنين بالإبلاغ عن الحالات المشتبه في إصابتها، فقد بادرت طبيبة شابة بالإبلاغ عن حالة مصاب بكورونا الجديد في المستشفى الجامعي بالإسكندرية، فاعتُقِلَت فوراً بتهمة نشر الإشاعات والإضرار بالأمن العام، وبعدها توالت الاعتقالات في صفوف الأطباء بذات التهمة، حتى طاولت أعضاء مجالس النقابة أنفسهم بالقاهرة والشرقية، كوسيلة لتكميم الأفواه ومنع المطالبة بحقوق الأطباء في توفير التجهيزات والمستلزمات وبروتوكولات مناسبة للعمل. بالإضافة إلى وجود المئات من الأطباء وعلماء الطب في السجون منذ سنوات، رغم حاجة الوطن إلى جهودهم لمواجهة الجائحة.
وبلغ الأمر أن طالبت منظمة العفو الدولية السلطات المصرية بالتوقف فوراً عمّا وصفتها بـ "حملة المضايقة والترهيب" ضد العاملين في مجال الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية الذين يعبرون عن بواعث قلق تتعلق بالسلامة، أو ينتقدون تعامل الحكومة مع أزمة وباء فيروس كورونا.
وبعد تكرار شكاوى نقابة الأطباء، عُقد اجتماع النقابة مع رئيس الحكومة في نهاية شهر أيار/ مايو، وتقدمت النقابة بطلبات واضحة بخصوص أمن الأطباء وسلامتهم وتحسين ظروف العمل وتوفير الاحتياجات من ناحية، ومن ناحية أخرى تعديل القانون رقم 16 لسنة 2018 الخاص بشهداء الجيش والشرطة ليشمل ضحايا كورونا من أفراد الأطقم الطبية، ورُفض الطلب الخاص بضحايا الأطباء، وأشار رئيس الوزراء إلى أن توجيهات السيسى تشمل إنشاء صندوق جديد من المساهمات المالية لأعضاء الأطقم الطبية أنفسهم للصرف منه على أسر الضحايا منهم، وذلك تحت مسمى "صندوق مخاطر المهن الطبية"، ما يعتبر رفضاً رسمياً لاعتبار ضحايا الأطقم الطبية ضمن شهداء الواجب الوطني، كما هو الحال مع ضحايا الجيش والشرطة.
وكان من دواعي الأسى والأسف أن يخرج رئيس الحكومة بعدها بأيام ويتهم الأطباء بالتخاذل والتسبب في زيادة عدد الوفيات بين المواطنين، وذلك على النقيض من جميع دول العالم، حيث التكريم والحفاوة بأفراد الأطقم الطبية، باعتبار أنهم يمثلون "الجيش الأبيض" الذي يشكل خط المواجهة الأول للتصدي لوباء كورونا الجديد الفتاك.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ النقابة، وفى نهاية شهر تموز/ يوليو الماضي، حاصرت قوات الأمن المصري مقر نقابة الأطباء بوسط القاهرة، ومُنع نقيب الأطباء من الدخول لعقد مؤتمر صحافي افتراضي للرد على اتهامات الحكومة للأطباء بالتقصير والإهمال في أداء واجبهم.
وتوالت الضربات الحكومية نحو مجلس النقابة بتوجيه الأذرع الإعلامية لانتقاد نشر مجلس النقابة العزاء في وفاة القيادي النقابي المعروف د. عصام العريان - رحمه الله - داخل محبسه، وانهار مجلس النقابة معنوياً، لتحدث تغييرات جوهرية في ترتيب المناصب داخل هيئة المكتب، وتمكنت الحكومة من فرض القيد والصمت الكامل على الصوت الوحيد الباقي لأطباء مصر.
تساقط الأطباء ضحايا كوفيد_19
كان واضحاً منذ بداية الأزمة أن الحكومة ليس لديها رؤية واضحة لمدى أهمية العناية بالأطقم الطبية، رغم أن إعلان منظمة الصحة العالمية عن جائحة كورونا يوم 11 آذار/ مارس 2020، حمل أيضاً التوصية بالاهتمام بصحة وسلامة الفريق الطبي ودعمه.
وتكررت شكاوى الأطقم الطبية من طول ساعات العمل، وعدم وجود فحوصات واختبارات مناسبة لهم خشية إصابتهم بالعدوى من المرضى أو نقل العدوى منهم للمجتمع، بالإضافة إلى نقص المستلزمات والواقيات والمطهرات. وفيما كانت الموجة الأولى تضرب أوروبا بقوة، وبلغت نسبة الإصابة 7 بالمائة بين الأطقم الطبية في إسبانيا، وهي الأشد تضرراً وقتها، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن النسبة قد بلغت 13 بالمائة في مصر؛ ورغم أن وزارة الصحة المصرية لا تعلن أعداد الضحايا بين العاملين فيها، إلا أن الصفحة الرسمية لنقابة الأطباء أصبحت مجرد "دفتر عزاء" يومي، وبلغ عدد الضحايا قرابة 230 طبيباً، بنسبة تبلغ عشرة أضعاف النسبة العالمية، في ظاهرة باتت مؤلمة لجميع المصريين.
وبلغ الاستهتار والاضطهاد الحكومي مداه نحو ضحايا كورونا، لدرجة أن شهادة وفاة الضحية لا يُشار فيها بوضوح إلى أن سبب الوفاة هو "كورونا - المستجد"، وبذلك تضيع الحقوق القانونية والإدارية باعتبارها إصابة عمل للأحياء، وتضيع معها حقوق الورثة في المستحقات المالية للمتوفين حسب القانون الذي يعتبر كوفيد_19 ضمن الأمراض الوبائية.
وفيما كانت وزارة الصحة تعلن قيامها بدور الراعي الرسمي ضمن الداعمين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي المنعقد حالياً، واجراء ألف مسحة لاختبار كورونا بالمجان لضيوف المهرجان، كان المستشار الرئاسي للصحة الوقائية يعلن أنه قد تفضل وأبلغ السيسى بقلة رواتب الأطباء، واحتياجهم للتدريب، وأنهم يعانون من الاعتداءات المتكررة في أثناء عملهم، وهي إشارة جيدة بالطبع، وإن جاءت متأخرة كثيراً عن وقتها،
فهل يستجيب السيسى لتلك النصيحة، أم تنضم إلى غيرها مثل طلب حقوق الشهداء حسب القانون 16 لسنة 2018، وبذلك يستمر ضياع حقوق الأطباء الأحياء، بعد أن ضاعت حقوق ورثة الأموات منهم في أحداث متلاحقة خلال سنة كبيسة عاشوا أحداثها الأليمة.