طمأنة الأقليات: حق يراد به باطل
أتابع بين فترة وأخرى قناة "سكاي نيوز عربية" للتعرف إلى موقف وسياسة دولة الإمارات العربية المتحدة تجاه ما يجري في سورية بعد سقوط نظام الأسد. في نشرة إخبارية للقناة بتاريخ 23/12/2024، كان الخبر الرئيسي يحمل عنوانًا بارزًا: "رسائل طمأنة للأقليات". وبالطبع، متابعة سياسة الإمارات في هذا السياق ليست أمرًا خفيًا، فالدولة المذكورة قادت وكانت رأس الحربة فيما يُسمى بالثورة المضادة ضد ثورات الربيع العربي، لأسباب يعتقد حكام الإمارات أنها تخدم مصالح بلادهم الاستراتيجية. ولكن قد لا يطول الوقت حتى يدرك هؤلاء الساسة أنهم ارتكبوا خطأً استراتيجيًا قاتلًا، ليس فقط ضد شعوب المنطقة، بل ضد مصالح الإمارات نفسها وشعبها. فالبلاد تضم موزاييكًا عرقيًا وإثنيًا قلما يتوفر في أي دولة أخرى، أوجدته الحاجة وظروف نشأتها. وقد ينقلب هذا التنوع، الذي يزعمون أنهم يدافعون عنه، ضدّهم في المستقبل.
في كتابه "الهند بعد غاندي" يذكر راماشاندر جوها، مؤلف الكتاب، نقلًا عن وثائق بريطانية أن إنكلترا خلال احتلالها للهند كانت تتسامح في كلّ شيء ما عدا أن تكون للهند إرادة سياسية واحدة. كانت إنكلترا، تلك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، على استعداد للتعامل مع التنوع الثقافي والديني والاجتماعي في الهند وحتى السماح ببعض أشكال الحكم الذاتي المحدودة أو التحركات الثقافية، لكنها لم تكن مستعدة للسماح للهند بأن تكون لها وحدة سياسية مستقلة أو إرادة سياسية موحدة تعارض سيطرة بريطانيا. بعبارة أخرى، كانت بريطانيا تدرك أن وجود إرادة سياسية واحدة موحدة في الهند يمثل تهديدًا مباشرًا لسلطتها الاستعمارية. الإرادة السياسية الواحدة قد تؤدي إلى حركات استقلال قوية وتنظيم شعبي يسعى لإنهاء الاحتلال البريطاني. لهذا السبب، اعتمدت بريطانيا سياسة "فرّق تسد"، حيث استغلت الانقسامات العرقية والدينية والطائفية في الهند لإضعاف أي محاولة لتوحيد الإرادة السياسية للشعب الهندي. وهذا السلوك كان تكتيكًا استراتيجيًا لضمان استمرار سيطرتها الاستعمارية وتجنب أي مقاومة سياسية منظمة من قبل الشعب الهندي. وربما يمكن القول إن تلك القنبلة الموقوتة التي تركتها إنكلترا في الهند انفجرت مباشرة في يوم استقلالها. لقد أطلق الهنود على استقلالهم "الاستقلال الأسود"، حيث انقسمت شبه القارة الهندية مباشرة إلى دولتين هما الهند وباكستان الإسلامية، وارتُكبت أثناء ذلك الاستقلال أبشع المجازر العرقية والطائفية، وكان الملايين ينزحون من الطرفين في اتجاه معاكس في أكبر مأساة شهدها العصر الحديث.
في سورية، ما أشبه اليوم بالبارحة! خلال فترة الانتداب الفرنسي، وظفت القوى الاستعمارية الطوائف أداة للسيطرة عبر تقسيم البلاد إلى كيانات طائفية منفصلة، ودمج الأقليات الدينية في التشكيلات العسكرية المعروفة بـ"قوات الشرق الخاصة". كان الهدف تعزيز الهيمنة من خلال تفتيت المجتمع السوري. السياسات الفرنسية لم تكن عشوائية أو مجرد استجابة لطبيعة المجتمع السوري المتنوع، بل كانت انعكاسًا لاستراتيجية استعمارية شاملة استُخدمت في مناطق أخرى مثل لبنان وشمال أفريقيا. الهدف الأساسي كان الإبقاء على سورية ضعيفة داخليًا، ومجزأة سياسيًا، وغير قادرة على مقاومة النفوذ الفرنسي حتى بعد الاستقلال.
في سورية، ما أشبه اليوم بالبارحة! خلال فترة الانتداب الفرنسي، وظفت القوى الاستعمارية الطوائف أداة للسيطرة عبر تقسيم البلاد إلى كيانات طائفية منفصلة
اليوم، وبعد سقوط النظام السوري، يبدو أن الدول الأجنبية التي تزور دمشق لا يعنيها شيء سوى "طمأنة الأقليات". ولكن، وراء هذه الرسائل تختبئ أطماع دولية قد تنتهي باحتلال أجزاء من سورية تحت مبرر حماية الأقليات. إسرائيل، على سبيل المثال، تستخدم هذه الذريعة لتحريض الدروز على الانضمام إليها، وترسل إشارات لـ"قسد" لتتعاون معها. الإمارات، بدورها، لن تتردد في عرقلة أي مسار نحو الديمقراطية، كما فعلت في مصر والسودان وليبيا، بحجج وذرائع مختلفة. أما إيران، التي خرجت مهزومة من سورية ولبنان، فهي تبحث عن فرصة للانتقام. روسيا، بدورها، لها إرث استعماري بحجة حماية الأرثوذكس، تم استخدامه ذريعة للتدخل العسكري والسياسي في البلقان والقوقاز والشرق الأوسط. وفرنسا، المؤسس لهذه السياسة، لا تزال تحن لسياسة حماية الأقليات.
ما هو الحل؟
لا شك أن هناك نارًا تحت هذا الدخان كما يقول المثل؛ فالقيادة السورية الجديدة وعلى رأسها أحمد الشرع، الجولاني سابقًا، تختصر إرثًا ثقيلًا يخيف الكثير من السوريين قبل غيرهم. فـ"هيئة تحرير الشام" والفصائل المتحالفة معها تستخدم خطابًا دينيًا وأيديولوجيًا يساهم في زيادة التشرذم داخل المجتمع السوري ويعزز الانقسامات الطائفية، ويصعب من إعادة بناء جسور الثقة مع باقي المكونات السورية، سواء كانت دينية أم عرقية. وهذا يسهل لتلك الدول التي ذكرناها أن تتدخل في الشأن السوري بحجة حماية الأقليات.
لذلك، المطلوب هنا ليس براغماتية شكلية يبرع فيها حتى الآن الشرع. ما يريده الكثير من السوريين هو أن ينظروا إلى الشرع بدون الجولاني. ما يحتاجه السوريون اليوم – قبل غيرهم - ليس مجرد وعود وشعارات براغماتية، بل رؤية سياسية وفكرية عميقة تركز على بناء دولة المواطنة والمساواة. هذا يتطلب من القيادة الجديدة أن تنأى بنفسها عن إرث الماضي، وتقدم مشروعًا وطنيًا جامعًا يتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية. بدون ذلك، ستبقى سورية عُرضة للتدخلات الخارجية تحت ذريعة "طمأنة الأقليات"، وسيظل السلام والاستقرار هدفًا بعيد المنال.