دروس في المصالحة وبناء المستقبل
تُعدّ تجربة جنوب أفريقيا في تحقيق المصالحة الوطنية عقب سقوط نظام الفصل العنصري واحداً من أبرز الأمثلة على قدرة الشعوب على تجاوز الصراعات والانقسامات المجتمعية العميقة. هذه التجربة جمعت بين العدالة الانتقالية والتسامح، وقادت البلاد من شفا حرب أهلية إلى نموذج ملهم للعالم.
عاشت جنوب أفريقيا سنوات طويلة تحت نظام الفصل العنصري الذي كرّس التمييز ضدّ الأغلبية السوداء لصالح الأقلية البيضاء. لكن في تسعينيات القرن الماضي، ومع النضال السياسي والمقاومة الشعبية، بدأت البلاد مرحلة انتقالية بعد إطلاق سراح نيلسون مانديلا عام 1990 وإجراء أوّل انتخابات ديمقراطية عام 1994. ومع تولي مانديلا رئاسة البلاد، أطلقت جنوب أفريقيا مشروعًا للمصالحة الوطنية بهدف تجاوز إرث الأبارتهايد.
تأسّست لجنة الحقيقة والمصالحة عام 1995، برئاسة الأسقف ديزموند توتو، لتكون منصّة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت خلال فترة الفصل العنصري. كان الهدف الرئيسي ليس فقط تحقيق العدالة، بل أيضًا تعزيز المصالحة الوطنية من خلال الكشف عن الحقائق وتوفير الفرصة للضحايا والجُناة للتعبير عن معاناتهم واعترافاتهم. أُتيح للضحايا الإدلاء بشهاداتهم حول الانتهاكات التي تعرّضوا لها، وكانت هذه الجلسات تُبث على التلفزيون والإذاعة لتشجيع الشفافية والتفاعل المجتمعي. كذلك أُتيح للجناة الذين اعترفوا بجرائمهم وقدّموا تفاصيلها أمام اللجنة الحصول على العفو، شرط أن تكون الجرائم ذات دوافع سياسية. هذا النهج ركّز على المصالحة بدلًا من الانتقام. عملت اللجنة على تقديم توصيات لتعويض الضحايا معنويًا وماديًا وضمان إعادة دمجهم في المجتمع.
يوثّق متحف الأبارتهايد إرث الفصل العنصري ويعرض قصص النضال والمقاومة، بهدف تذكير الأجيال القادمة بضرورة التعايش والمساواة
ساهمت اللجنة في كشف العديد من الجرائم التي ارتكبها نظام الفصل العنصري، ووفرت للضحايا فرصة التحدّث عن معاناتهم، ما أدى إلى تخفيف التوترات المجتمعية. كذلك منحت الجناة فرصة للمواجهة العلنية مع أفعالهم، ما ساعد في بناء ذاكرة وطنية جماعية. لم تقتصر الجهود على العمل السياسي، بل شملت أيضًا مبادرات رمزية ومعالم تحمل دلالات عميقة. متحف الأبارتهايد يوثّق إرث الفصل العنصري ويعرض قصص النضال والمقاومة، بهدف تذكير الأجيال القادمة بضرورة التعايش والمساواة. جزيرة روبن، حيث سُجن مانديلا لعقود، أصبحت رمزًا للتسامح والتغيير، وتستقطب آلاف الزوّار كلّ عام.
هناك أيضًا كأس العالم للرغبي عام 1995، حيث شهدت البطولة لحظة استثنائية عندما ارتدى مانديلا قميص فريق الرغبي الوطني الأبيض، سبرينغبوك، الذي كان رمزًا للهيمنة البيضاء، ليؤكّد أهمية الوحدة الوطنية. هذا الحدث أثار مشاعر فخر لدى جميع فئات الشعب واعتُبر خطوة رمزية عظيمة لتجاوز الانقسامات العرقية. قال مانديلا آنذاك: "إن الرياضة قادرة على تغيير العالم، وهي قادرة على الإلهام وعلى توحيد الناس على نحو لا يستطيع أي شيء آخر أن يفعله".
ومن المعالم الأخرى، متحف المنطقة السادسة، الذي يروي تاريخ جنوب أفريقيا المضطرب. كذلك أُعيد إحياء مواقع تاريخية كانت تمثل الألم والمعاناة لتصبح اليوم أماكن تُذكّر الناس بالمصالحة والإنسانية، مثل متحف "هيكتور بيترسون" التلميذ البالغ من العمر 12 عاماً، الذي قتل برصاص الشرطة، خلال اندلاع انتفاضة سويتو، في 16 يونيو/حزيران 1976. وأيضًا، أُنشئت حدائق السلام في مناطق النزاع السابقة لتكون رمزًا للبدايات الجديدة.
السوريون أيضًا، يمكنهم استخلاص العبر من هذه التجربة لإطلاق عملية مصالحة شاملة بعد سقوط نظام الأسد، إذ يمكن تشكيل لجنة وطنية للحقيقة والمصالحة تعمل على الكشف عن الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت خلال الصراع السوري، مع التركيز على منح فرصة للضحايا للتعبير عن معاناتهم والجناة للاعتراف بأخطائهم. يمكن أن تشمل العملية أيضًا مبادرات رمزية تعزّز الوحدة الوطنية، مثل إحياء مواقع تاريخية عانت من الصراع وتحويلها إلى أماكن رمزية تذكّر بالمصالحة والإنسانية، وإطلاق فعاليات رياضية وثقافية مشتركة تجمع السوريين بمختلف أطيافهم.
يمكن للرموز الثقافية والدينية في سورية أن تقود مبادرات للحوار الوطني، وتشجيع إعادة بناء الروابط بين مختلف مكوّنات المجتمع السوري
كذلك، فإنّ القيادة الحكيمة ستكون أساسية في هذه المرحلة. أيضاً يجب أن تلعب الشخصيات الوطنية ذات المصداقية دورًا رئيسيًا في تعزيز التسامح وبناء الثقة. مثلًا، يمكن للرموز الثقافية والدينية في سورية أن تقود مبادرات للحوار الوطني، وتشجيع إعادة بناء الروابط بين مختلف مكوّنات المجتمع السوري. يمكن أن تكون هناك مشاريع لتعليم الأجيال القادمة أهمية الوحدة والتسامح، مستلهمة من مناهج تربوية تعزّز المواطنة المشتركة.
أظهرت تجربة جنوب أفريقيا أنّ التسامح هو السبيل الوحيد لتجاوز الماضي المؤلم. وبدلًا من التركيز على الانتقام، اتجهت جنوب أفريقيا نحو بناء مجتمع متماسك. الكشف العلني عن الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان ساعد في تخفيف مشاعر الغضب والمرارة، ما أفسح المجال للمصالحة الحقيقية. القيادة التي تضع مصلحة الوطن فوق المصالح الشخصية والإيديولوجية كانت أساسية في إنجاح التجربة. تجربة جنوب أفريقيا تبرز كيف يمكن لشعب أن يتغلّب على الانقسامات العميقة ويعيد بناء نفسه على أسس من العدالة والتسامح. ورغم التحديات التي واجهتها، ورغم النواقص التي فيها، تظلّ هذه التجربة درسًا عالميًا في قوّة التسامح والقيادة الحكيمة لبناء مستقبل أفضل.
في الختام، يخطئ من يظن أنّ برامج المصالحة والعدالة الانتقالية تنحصر أهدافها في الماضي وفي محاسبة نظام قد سقط وسيطويه النسيان، أبدًا. تهدف برامج المصالحة، في واحد من أهدافها الكثيرة، إلى تحصين المستقبل من خلال إصلاحات مؤسسية، كإصلاح القضاء والشرطة والجيش والأجهزة الأمنية، وإجراء إصلاحات قانونية ودستورية، لمنع أيّ انتهاكات مستقبلية لحقوق الانسان من أيّ سلطة أتت أو ستأتي؛ هدفها المستمر إرساء دولة متينة وتقوية الديمقراطية من خلال إرساء قواعد الشفافية والمساءلة وبناء الثقة، لتمتدّ في النهاية إلى مشاريع التنمية البشرية التي عمادها وحجز الزاوية فيها هو الإنسان.