سوسيولوجيا الجريمة في تونس... واقع وأرقام
صنّف مؤشر "نامبيو" العالمي للجريمة تونس في المركز 65 دولياً لسنة 2019 من بين 118 دولة حول العالم، وأشار التقرير إلى أن تونس سجلت أدنى مستويات للجريمة على المستوى العالمي والعربي والمغاربي والأفريقي، فيما حلت مدينة تونس العاصمة في المركز 187 عالمياً، ضمن التقرير الذي يشمل 319 مدينة عبر العالم. وحصلت تونس على تقييم 42.29 نقطة في مؤشر الجريمة، و57.96 نقطة ضمن مؤشر السلامة الأمنية.
شكّلت الجريمة في السنوات الأخيرة أحد أهم الهواجس التي تسيطر على مختلف الشرائح الاجتماعية وتصدرت أخبار الجريمة في تونس مقدمة ما تتناوله بالنقاش وسائل الإعلام العمومي والخاص في البلد، وبالنّظر إلى ما ينشر عادة من قبل رواد الشبكات التواصل الاجتماعي في تونس تتقدّم أخبار الجرائم طليعة ما يتم نشره والتفاعل معه، الشيء الذي يجعل القيام بدراسات سوسيولوجية وتحليلية عميقة للظواهر الإجرامية ضرورة ملحة.
وفي مقارنة بسيطة بين ما جاء به مؤشّر ناميبو وما يطلّ به علينا رواد شبكات التواصل الاجتماعي، نجد أن الهوة متّسعة بينهما، إذ يعتبر مؤشر ناميبو أن تونس أقل الدول العربية والأفريقية على مستوى الجريمة على عكس صيحات الفزع المتتالية التي يطلقها التوانسة أمام تنامي خطر الجريمة في ظل وضع اقتصادي واجتماعي خانق زادت في تأزيمه جائحة كورونا.
ولكن أليس من الإجحاف اعتبار تلك الدعوات الصادرة من هنا وهناك لردع مؤشر الجريمة في تونس دلالة قوية على أن الشعب التونسي شعب واع لم يتعوّد استفحال الجريمة في مدنه، وأي تغير، ولو كان بسيطاً، في مؤشرها، وأي تصاعد في معدّلها يمثل خروجاً عن المألوف المتمثل في الأمن المستتب منذ عقود طويلة، إذ إن المؤشر العام للجريمة كان قبل اندلاع ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 لا يتعدى 5%، وأصبح الآن في حدود 6.8% وهو ارتفاع طفيف لا يمكن أن يشكل بأي حال هاجساً مسيطراً على عقول النخبة التونسية، خاصة إذا تبادر إلى علمنا أن مؤشر نمو الجريمة في العالم قريباً جداً للمؤشّر التونسي.
إضافة إلى ما سبق ذكره، قدمت بعض التقارير الدولية الأخيرة حول الجريمة على المستوى العالمي نتائج "مريحة" نوعاً ما عن الوضع في تونس، فمثلاً تضمن تقرير مؤشر السلام العالمي The Global Peace Index والذي يصدره معهد الاقتصاد والسلام - وأجري على 162 دولة في العالم، من بينها تونس، واعتمد على 23 مؤشراً كمّياً ونوعياً - نتائج مريحة عن الوضع الإجرامي في بلادنا، إذ لم يصنف تونس ضمن العشر دول الأولى الأقل إجراما أو العشر الدول الأكثر إجراما.
أثبت المواطن التونسي في العديد من المناسبات أن مؤشّر الوعي لديه أقوى بكثير من المؤشرات الدافعة نحو الرغبة في إتيان فعل سلبي أو ارتكاب جريمة
وعلى مستوى ما يسمى بالتكلفة الاقتصادية للعنف والجريمة في العالم العربي والأفريقي لم يسجل التقرير خطورة تستحق الذكر بالنسبة لتونس، وفيما يلي بعض النتائج الإحصائية المسجلة:
- العراق بلغت التكلفة السنوية 149,6 مليار دولار.
- مصر بلغت التكلفة السنوية 62 مليار دولار.
- الجزائر بلغت التكلفة السنوية 45,6 مليار دولار.
- السودان بلغت التكلفة السنوية 24,7 مليار دولار.
- اليمن بلغت التكلفة السنوية 9 مليار دولار.
- تونس بلغت التكلفة السنوية 4 مليار دولار.
ورغم أن المجتمعات الإنسانية عادة ما تعيش عدم استقرار اجتماعي واقتصادي وحتى نفسي كلما حدثت فيها ثورات مفاجأة كتلك التي حدثت في تونس، فإن تفشي أنواع الجريمة فيها يعتبر شيئاً عادياً في ظلّ غياب الأمن وغياب الآليات الخاصة بالمحافظة عليه..
إلا أن تونس تقريبا حافظت على مستوى ثابت في مؤشر الجريمة، مما يطرح العديد من التساؤلات السوسيولوجية المهمة حول طبيعة المجتمع التونسي الذي يرفض أصلاً الانخراط في الظواهر السلبية المهددة للشريحة المجتمعية رغم فقدان الأمن وغياب السلطة الردعية.
وقد أثبت المواطن التونسي في العديد من المناسبات أن مؤشّر الوعي لديه أقوى بكثير من المؤشرات الدافعة نحو الرغبة في إتيان فعل سلبي أو ارتكاب جريمة رغم تدخّل بعض الفاعلين الدوليين من أجل التحريض وإثارة النعرات داخل مكونات المجتمع التونسي بتشجيع اعتداء فئة على أخرى أو حزب على آخر.
من جهة أخرى إن سلوك الإنسان السويّ منه وغير السوي يمر عادة بثلاث مراحل رئيسية هي: أولاً "مجرد ممارسات منعزلة" ثم إذا توفرت جملة من المغذيات تتطور إلى "ظاهرة اجتماعية"، ثم مع توفر جملة من الشروط تتطور وتنمو الظاهرة لتصبح "ثقافة" وهي أخطر مرحلة يمكن أن يمر بها السلوك غير السوي، وأرقى مراحل التطور بالنسبة للسلوك السوي.
وعليه فإن الفرد في المجتمع التونسي لا مناص من أن يمرّ بمثل هذه المراحل حتى يمكننا بعد ذلك الحديث عن تنامي عنصر الجريمة فيه، ولكن عادة ما تقف تلك السّلوكيات عند مجرد الممارسات الفردية التي لا تتطور لتصبح ظاهرة أو ثقافة، ودلالة ذلك تظهر أن أي جريمة تحدث في البلد يسمع بها القاصي والداني، وتضحي محل نقاش وتجاذب في وسائل الإعلام أو على شبكات التواصل الاجتماعي، ولو كان الأمر عكس ذلك لرأينا نفس تلك الوسائل تتحدث عن الظاهرة برمتها لا عن مجرد حادثة من هنا وهناك.