سنصمدُ رغم انتصار المخزن
(إلى روح سعيدة المنبهي)
لقد انتصرَ المخزن بشكلٍ كامل، بشكلٍ واضحٍ وفادح. ليس هناك على الساحة اليوم سوى المخزن بكاملِ غطرسته وجبروته وبطره، بعد أن كسرَ الجميع وطحنَ الجميع ودجّنَ الجميع، إنّه الآمر الوحيد والناهي الوحيد، الفاعل لما يشاء ولما يُريد.
أصبح أملنا اليوم إذن، ليس الثورة؟ ليس المحاسبة أو العدالة؟ ليس الربيع ولا الخريف، بل العفو؟ العفو الملكي؟ العفو الإلهي؟ العفو فقط؟ حيث إنّ المخزن جبّارٌ، متكبّرٌ، منتقمٌ، سوى أنّه عفوّ رحيم؟
وماذا تبقى ليتبقى؟ ماذا تبقى لنا غير الصراخ من بعيد؟ غير العويل، غير البكاء دون دموع، غير الشتم من بعيد، والهرب والاختباء والحذر والاحتماء بالأدعية والطلاسم والحظ والكائنات الفضائيّة؟ ماذا تبقى لنا غير الانهيار بعيدًا؟ بل حتى هذا لا يحقّ لنا، حتى هذا ممنوع، حتى هذا يُعدّ جريمة وعقوقًا وخيانة.
ماذا تبقّى لنا غير أن ننتظرَ بأملٍ أن يخرج المعتقلون من سجونهم دون أن تكون لنا أيّة شروط إزاء ذلك، وإلّا فسيموتون هناك دون أن يؤثّر ذلك في أيّ شيء. سيتعفنون هناك بإهمالٍ كاملٍ، وستتعفّن معهم الحريّة. ستتعفّن الآمال أيضًا، وستتعفّن دعوات الأمّهات دون أن تحرّك الملائكة ساكنًا، ولا حتى الشياطين.
الملائكة محايدة والشياطين محايدة، السماء محايدة والأرض محايدة، العناصر محايدة والعدم محايد
آه من الملائكة وآه من الشياطين، لقد أصبحتْ كلّها على الحياد؛ الملائكة مُحايدة والشياطين مُحايدة، السماء مُحايدة والأرض مُحايدة، العناصر مُحايدة والعدم مُحايد، وحتى الريح أضحت محايدة. آه من الريح التي خذلتنا. حتى العواصف أصبحت اليوم على الحياد، وقد شاخ عبد الحميد أمين وتعب، فلم يعد هناك منجّمون يبشّرون بالقيامة ولا بمظاهرة، ولم يعدْ هناك من نفسٍ لمواجهة كلّ ذلك البوليس؛ مواجهته بالقلب فقط، مواجهته بالأحلام فقط، مواجهته بالأنفاس المتقطّعة.
وإنّي لا أرثي هنا رجلًا اسمه عبد الحميد أمين، لا أرثي رجلًا اسمه الفقيه البصري، لا أرثي سعيدة المنبهي، ولا رحالاً ولا زروالاً، بل أرثي شعباً بأكمله، أرثي بلادًا، بحرًا، محيطًا، وجبالًا يتيمة. أرثي الذين وُلِدوا، والذين ماتوا، والذين ما زالوا مُقمّطين في رحم الغيب، وفي رحم الغياب. أرثي الذين قالوا لا، وأرثي معهم الذين قالوا نعم. أرثي الذين طلبوا العفو من الملك، والذين لم ولن يطلبوه. أرثي المؤمنين بالمخزن، الخاشعين له، المُسبّحين بحمده، الراكعين الساجدين له، الطامعين في جناته، الخائفين من جبروته وسخطه وعقابه، وأرثي معهم الكافرين به، المارقين والآبقين... دون أن أنسى المكتفين قرونًا طويلة، فقط، بالإقامة فوق سور أعراف السلطة.
إنّي أرثي يدي هذه تكتب، يدي هذه التي لم تعدْ قادرة أن تكتب، إذ ما الذي تبقى لنا اليوم غير التحديق طويلًا في الغيوم؟ في الأسوار، وفي القضبان الصدئة والصلبان، التحديق في الريح وفي الآفاق الخاوية، التحديق الطويل المُستدام في الزوارق والسفن وبواباتِ المنافي العالية المُوصدة.
وما الفرق اليوم بين من يقبعون في السجون ومن يقبعون في العشوائيات ودور الصفيح؟ ما الفرق بين الدجاجة والخروف والبقرة إلّا بتقوى المخزن؟ لقد تشابه علينا البقر، وتشابه علينا الغنم، وتشابه علينا الدجاج، وتشابهتْ علينا السجون والمنافي والمقاصل. تشابهت علينا العبودية بالحريّة، وتشابه علينا العدل بالظلم، الحياة بالموت، الملوك بالآلهة، العسس بالملائكة، المعارضون بالشياطين.
تشابهت علينا العبودية بالحريّة، والعدل بالظلم، الحياة بالموت، الملوك بالآلهة، العسس بالملائكة، المعارضون بالشياطين
وماذا بأيدينا اليوم؟ وماذا بأرجلنا؟ غير انتظار العواصف، غير الاستنجاد بالبروق والرعود، غير استجداء الزلازل، غير مناشدةِ الأوبئة، غير كتابة القصائد الحزينة والقصص القصيرة الساخرة والروايات البوكاليبسية، التي شخوصها من نار وحبكتها من دخان.
ما الذي تبقى لنا غير تجزيةِ الوقت بفيديوهات "تيك توك"، حيث قرد يتبنى قطّة، وتيس ينطحُ غيمةً، وتمساح يصادق زرافةً يتجولان معًا كعاشقين في حديقة فيلا ملك أو جنرال أو زعيم مافيا. إنّها في كلِّ الأحوال فيديوهات مُضحكة تمنحنا الأمل في الحياة، في السخرية ضدّ العبث، وفي الصمود ضدّ العدميّة. الصمود؟ إنّها كلمة مضحكة أليس كذلك؟ كلمة رومانسية؟ كلمة كلاسيكية جدًّا يصعب حتى على برامج الذكاء الاصطناعي ترجمتها ترجمة سليمة.
إنّها كلمة نوستالجية للغاية، تُذكرني بتلك الصرخة القديمة لسعيدة المنبهي التي ما زال الصدى يكرّرها اليوم داخل سجوننا: "تذكروني بفرح فأنا وإن كان جسدي بين القضبان الموحشة فإن روحي العاتية مخترقة لأسوار السجن العالية وبواباته الموصدة وأصفاده وسياط الجلادين الذين أهدوني إلى الموت. أما جراحي فباسمة محلقة بحرية".
الصمود؟ كلمة من الماضي السحيق؟ كلمة بلا معنى؟ كلمة من معجم المقابر؟
كلا، إنّها لا تزال حيّة، حتى وإن في غيبوبةٍ سريريّةٍ في غرفة إنعاش، حيّة في قلوبنا، حيّة في ضمائرنا، لذلك سنصمدُ يا سعيدة، سنصمدُ داخل السجون كما خارجها، سنصمدُ بكلِّ خوفنا ورعبنا وبكلّ جبننا، سنصمدُ يا رحال ويا زروال، سنصمدُ يا الفقيه البصري، سنصمدُ يا عبد الحميد أمين، سنصمدُ يا نقوش الحنّاء في أيدي وأرجل أمهاتنا، يا أوشام الأرض والحبّ والحياة على جلود جدّاتنا، يا شواهد الصلصال فوق قبورِ أجدادنا، سنصمدُ كالصخور الصلبة التي يحفرها الماء، وكالفراشات الهشّة التي رغم الحرائق، رغم الصقيع، رغم العواصف، رغم التشرّد، رغم الكسوف والخسوف، رغم فوهات المدافع، رغم الحديد والنار، تخرجُ كلّ ربيعٍ من الشرانق لتطيرَ كالسمفونيات فوق الورد والزهر، فوق الولادةِ كما فوق القبور، تطير زاهيةً بالألوان، بالأمل، بالحبِّ...
سنصمد يا بحر المغرب، يا محيط المغرب، ويا جبال المغرب.