ستٌ وسبعون عاماً على النكبة

15 يوليو 2024
+ الخط -

على شاطئ البحر كأيّ غزّيّ متنفسه الوحيد البحر، قضيت أيامًا كثيرة في الاستماع إلى الشهادات العفوية من نازحي شمال القطاع، لم أستطع للحظة واحدة منع نفسي من تذكر المسلسل الوثائقي "التغريبة الفلسطينية".

وُلدتُ بعد النكبة، والنكسة، ويوم الأرض، واتفاقية أوسلو. فأنا خلافًا لجدّي وجدّتي لا أعرف فلسطين. أنا من الجيل المدرك الذي قال عنه بن غوريون: "الكبار يموتون والصغار ينسون". عشنا في ذاكرة لا تصدأ، أنعشناها، جدّدنا عهدنا، وكلما ظنّ الإسرائيلي أنّنا انخرطنا، تأقلمنا أو نسينا.. خرجنا له في كلّ مكان، في الشوارع، والجامعات، والميادين.

أنا مَنْ تعلمت الكثير عن فلسطين، ارتويت حبّ فلسطين من محمود درويش، وغسان كنفاني، والسيدة رضوى عاشور ومريد. أنا مَنْ أعادتني أحداث النزوح القسري إلى ذكرى النكبة. فما الذي تشاركناه نحن الغزّيّون من نزوحنا مجبرين من منازلنا تحت قناصة الاحتلال مع أجدادنا وما الذي اختلف في تجربتنا المعاصرة؟ نزحت مع عائلتي تحت نيران القصف، والأحزمة النارية تاركين خلفنا منزلنا.

لم نأخذ معنا شيئًا سوى مفتاح البيت وحقيبة صغيرة تحتوي على الأوراق الثبوتية الرسمية. وأخذنا نركض بلا هوادة لننجو من الموت المحتم، وبعد أشهرٍ من العدوان قُصف البيت وظل المفتاح. إن ما نعيشه من حروب متكررة على غزة، آخرها الحرب الحالية، هو نتاج نكبة 48. أعني أن الحدثين غير منفصلين، بل مكمّلين بعضهما للآخر.

أما عن وجه الشبه والاختلاف ما بين تهجير الفلسطينيين عام 1948 وعام 2023-2024، ترى أن الاحتلال هندس في غزة واقعًا يجبر الفلسطيني على الهجرة طواعية من خلال التدمير الممنهج وجعل البيئة طاردة للحياة. وهذا شكل مغاير لتهجير 1948 الذي كان قسريًا واختياريًا في آنٍ واحد.

وعليه، فنحن اليوم نتعرض لأبشع حرب إبادة وتطهير عرقي. لكننا ما زلنا قادرين على أن نحكي عن النكبة في الوقت الذي نُباد فيه إبادة جماعية على مرأى العالم ومسمعه. لقد كتب الفلسطينيون عن النكبة وما أنتجته من مأساة جماعية أو فردية يعيشها كل فلسطيني في وقتنا الحاضر سواء في غزة أو الداخل المحتل أو الشتات، إلا أن هذه الإبادة المستمرة لشهورٍ على القطاع، جاءت لتعمق إحساسنا بالنضال والعمل الوطني والحراك السياسي الفاعل وبالحديث دائمًا عن النكبة حتى ولو كان ذلك من خلال الكتابة الحرة.

أن نكتب عن النكبة يعني أن نكون حاضرين، وأن نقول قصتنا الجماعية وروايتنا الفردية في سياق المأساة، يعني أننا ما زلنا أحياء وما زلنا نحلم بالعودة إلى الأرض، يعني أننا ما زلنا متمسكين بحقنا وأرضنا وقضيتنا وروايتنا وما دامت الحكاية قابلة لأن تروى يعني أنها لن تموت.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى بتّ أعرف أن النكبة كانت حدثًا مفصليًا في تاريخ الفلسطينيين، وأنها كانت تتويجًا لكل هذه الإبادة ولخسارة هذه الأرض وهذا الوطن وحتى البيت وما مهّد لما بعده من خيام وتشرد وشتات. ولا أعرف حقيقة كيف أقوى على ابتلاع هذا الواقع كله الذي خلفته النكبة إلى اليوم..

ولكن عبثًا أحاول في كل يوم إعادة ترتيب المشهد على الأقل لمزاولة مسؤوليتي تجاه وطني وقضيتي كفلسطيني وكغزّي وكصحافيّ يقع على عاتقه أن يوضح للعالم سردية لهذه المدينة المنكوبة. إن ما يحدث اليوم في القطاع يفوق كل لغة، كل ما يحدث صادم بالطريقة التي تورِّث الخرس. لو لم تحدث النكبة، أو لو حدثت وانتهت. لو لم تحدث النكبة كنت سأكتب عن الذين خرجوا من منازلهم واستطاعوا العودة ليمسحوا الغبار ويسقوا الزرع. 

لا يوجد لاجئ فلسطيني لا يحلم بالعودة فهي ليست أمنية أو خيالاً، بل حق أصيل من حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة

ولو لم تحدث النكبة كنت سأتبجح في مقال عن جمال فلسطين كلها وعن المساحات الخضراء لبلدتي الأصلية "بئر السبع" وريفها. كنت سأكتب عن يافا وبيسان واللد والرملة وطبريا ورام الله وحيفا وصفد.. وكيف يذهلني وجود كل هذا الجمال في مكانٍ واحد! لم أزاول الحياة في المخيم كجدي وجدتي، ولكنني عشت شهور الإبادة في القطاع بين ترهات المخيم اللعين، المرة الأولى التي أعيد فيها بلورة تعريف حقيقي للمخيم بعيدًا عن ديباجات التعريفات النظرية.

كل شيء في المخيم يظل يقدم لك درسًا وشرحًا واضحًا عن النكبة، ويذكرك بأنها جزء من هويتك الفلسطينية المرتابة دائمًا، القلقة من شيء قد يحدث، كأنها زرع النكبة الذي نبت فينا. بدايةً من تشقق البيوت في الشتاء مرورًا بكل الموجودات من حولك، وربما تكونت هذه الصدمة من فعل القراءة السابق لتاريخ النكبة والهجرة التي تتطلب نهاية للحدث، ومن كونها حدثًا تاريخيًا أو ذكرى مأساوية حصلت وانتهت، حيث أتاحت لها أن تصير نصبًا تذكاريًا وموضوعًا للدراسة والتأمل. إذ كان الهجيج بداية لبنية مستمرة وحدث يومي معاش حتى الآن. لكلمة النكبة وقع مختلف في ذاكرة الفلسطيني بل وفي تاريخ فلسطين كلها؛ لأن التاريخ لا يتركنا وشأننا، يظل يلاحقنا في كل مصائرنا، في أوراقنا وجوازات سفرنا ويلحق بنا في المطارات، كأن العالم لا يراك.

وفي ظل ما يشهده الفلسطيني من إبادة مستمرة وتشريد وتجويع كان لا بد من رواية للفلسطينيين وحدهم يحكون فيها عن نكبتهم، وحاجة غزة خاصة إلى روايتنا نحن أبناءها وبناتها.. إلى الفرصة والمساحة التي نسرد بها روايتنا عن أنفسنا وعن تجربتنا داخل الحصار ومونولوج الحرب، عن إرادتنا وأحلامنا، عن طريقة تفكيرنا سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا وعن أمنياتنا للمستقبل وحتى عن الجدل العميق حول المشروع الوطني.

لا يوجد لاجئ فلسطيني لا يحلم بالعودة فهي ليست أمنية أو خيالًا، بل حق أصيل من حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة، وعلى الرغم من اختلاف السياقات التي يعيش فيها الفلسطينيون في مختلف مناطق وجودنا إلا أن ثمة سمة عامة متخيلة عن هذا الحق. هو حق العودة إلى الأرض، إلى فلسطين. ولأن التاريخ يعيد ولادة نفسه، نجد سردية التهجير ذاتها متأصلة بتفاصيل التطهير العرقي الذي حصل في نيسان/ إبريل من عام النكبة وخلق حالة القلق والبدء في رحلة المعاناة.

حيث ذاتها الأيام والليالي التي فرضت علينا التنقل كمجموعات من النازحين من مخيم لآخر، والليالي التي اضطررنا فيها للنوم على الأرض دون فراش أو حتى غطاء بالرغم من موجات البرد، والأيام التي قضيناها بلا طعام ولا مأوى ولا راحة، والشاحنات التي كانوا يحملون فيها الرجال للتحقيق والتنكيل خارج البلاد، هي ذاتها التفاصيل اليومية بلغة الإنسان المظلوم الذي يعيش تحت الاحتلال. وفوق ذلك كله وقوفنا أمام مصير مجهول وخوف وقلق ومشاعر مختلطة من اليأس والحزن. فإن النكبة شعور يومي متجذّر فينا كفلسطينيين، كل حدث في البلاد..

كل حركة تحصل في شمال البلاد تهز جنوبها والعكس صحيح. كل عدوان على غزة تعتصر بسببه قلوبنا ويتفاقم شعورنا بالعجز وكل وجع تعيشه أمهاتنا في القطاع تبكي مقابله أمهاتنا في الضفة. نحن الفلسطينيون المنثورون في كل بقاع العالم.. نحن أصحاب الأرض، وهل لأيّ شيء في العالم أن يمحو الحقيقة؟ نحن الجيل الذي أخذ على عاتقه أن يقول كلمته دون تردد أو خوف؛ ولو كان الثمن مقابل ذلك حريتنا.

ريما القطاوي
ريما القطاوي
ريما القطاوي، كاتبة روائية، وباحثة في الشأن العام عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، تدور اهتماماتها البحثيَّة حول القضايا العامَّة المعاصرة ودورانها في عوالم الصحافة، صدر لها رواية "كلنا على سفر".