رمضان هذا العام
أهلاً بك يا رمضان، هذا العام وكل عام، وأنعم وأكرم بك من زائر! كلّي شوق وأمل للقياك، وفرح وسعادة بمجيئك، عيناي لا تفارقان الأفق لعلي أكون أول لامح لهلالك الجميل، وفمي لا يزال يترنم باسمك كالهائم الولهان، فإذا ما ذكرت حروفك أشرقت الدنيا، كأنما نحتت تلك الحروف من نور أو قدّت من ضياء، أهلا بنسماتك العذبة ولياليك المليئة بالبركة والسلام، وأيامك المشرقة بالبذل والعطاء والحب والإخاء.
ها أنا أشتم رائحة حبات القهوة وأمي تقوم بتحميصها منذ أول رجب استعداداً لاستقبالك، فأنت ضيف كريم تستحق الإكرام والإجلال، فمرحباً بك، وبكلّ ضيف يأتي معك.
وها هم الناس يستقبلونك بالأهازيج العذبة، يصدحون بها صبح مساء، من على رؤوس الآكام، ومن بطون الشعاب والأودية، منتظرين مقدمك الميمون، بحفاوة بالغة كأنك مغتربٌ عاد لأهله من سفر بعيد.
"مرحبْ مرحبْ يا رمضان
شهرُ السعادةِ وشهرُ الصيام"
ها قد بدأ الأطفال يتحدثون عنك بينهم، ويعدّدون ما سوف تحمله لهم في جعبتك من فرح وسلام، وحلوى وطعام، ها هم يلعبون، وعلى وجوههم الرضا والسعادة، إنني أتخيلهم (كما كنت أفعل في طفولتي)، منهمكين بتثبيت القناديل على أسطح البيوت، وفي زوايا البلدة ودروبها الصغيرة. أراهم يصنعون المشاعل الصغيرة من العلب الفارغة ويضعون الرمل فيها، ويضيفون رماد المواقد أعلاها، ثم يصبّون الزيت عليها ويشعلونها بأعواد الكبريت في حفل طفولي بهيج، لتبقى مشتعلةً طوال الليل حتى الفجر. قديماً، هكذا كان يعرف سكان الأودية المجاورة والبيوت البعيدة عن وسط البلدة، ممن لا يمتلكون مذياعاً أو تلفازاً، أنّ اليوم التالي هو أولُ أيامِ شهرِ رمضان المبارك.
يتبادل الناس الأطباق الرمضانية التقليدية، وهي عادة أصيلة وجميلة تعكس كرم النفوس وسماحتها في مشاركة الطعام وإن كان بسيطاً
ها أنا أتخيّلُ النساء وهنّ يجمعن الحطب بهمةٍ عاليةٍ من فجاج الجبال الشامخة، ويحملنه على ظهورهن مسافات كبيرة، فالمواقد تحتاج الكثير منه، وضيوف الرحمن يطرقون الأبواب في رمضان، والخير موجود.
نعم الخير موجود، هذه هي كلمة الناس هناك قديما، تنبع من أفواههم كالنسيم العليل، لأنّ الخير تأصّل في نفوسهم واستوطن قلوبهم.
ترى هل ما زال ذلك الخير موجوداً؟!
أما عن حانوت القرية الوحيد والصغير، الذي تتزين رفوفه ببصائعَ وسلعٍ لا تُرى في غير هذا الموسم، كأنها حِكر على الضيف الكريم، يَضِنُ الناس بها عن غيره من المواسمِ والشهور وسائر الأيام، ذلك الحانوت كان سببا من أسباب سعادة الأطفال وعيونهم تتفحّص أركانه وزواياه، وأكبر أحلامهم قطعة حلوى صغيرة!
شوربة الشوفان لا يكاد أحد يتذوّقها إلا في ليالي الشهر الفضيل، والمهلبية لا تطبخ إلا في أيامه السعيدة، يجب أن تكون لرمضان تلك الخصوصية حتى في ما يطبخ فيه من طعام، كيف لا؟! وهو شهر رمضان، شهر له طعم مختلف ونكهة فريدة.
يا لأيامك السعيدة يا رمضان، ويا لذكرياتي معك في سويعات العصر، عندما تميل الشمس ناحية الغرب، ويبدو ظلّ الشيء كمثله، تلك حكاية أخرى، حيث تفوح روائح الأطعمة الزكية من أزقة البلدة وطرقها الضيقة، ويتبادل الناس الأطباق الرمضانية التقليدية، وهي عادة أصيلة وجميلة تعكس كرم النفوس وسماحتها في مشاركة الطعام وإن كان بسيطا، فقيمته المعنوية تفوق قيمته المادية، وما أجمل تلك الأصوات التي كنتُ أسمعها تتلو في خشوع وسكينة آيات القرآن الكريم من فناء المسجد القديم، الذي يزيد عمره عن مائتي عام، والذي يحرص الجميع، صغاراً وكباراً، على الإفطار فيه بشكل جماعي
لا أدري يا رمضان هل ما زال الناس في بلدتي كما تركتهم؟! وهل ما زالت تلك العادات الجميلة متأصلة في نفوسهم، وهل ما زال الأطفال يستقبلونك بالقناديل كما كنا نفعل؟!
وهل ما زال الناس يجتمعون بعد صلاة التراويح ويتبادلون الأحاديث الودية التي تخلو من كلّ سوء يعكّر صفو الشهر الكريم وسكونه؟! وهل يصطفون بهدوء حول تلفاز قديم يتابعون برامجه بكل شغف واهتمام؟!
عُد لنا يا رمضان سالماً في كلّ عام، عُد لنا لتمسح من مآقينا الدموع، وتذهب عن نفوسنا الحزن والكدر، وتجلو عن قلوبنا الصدى وتجدّدها بمقدمك السعيد
وهل ما زالوا (كما كنتُ أراهم صغيرا) يتبادلون القصص والحكايات والألغاز، حيث لم يكن لهذه العوالم الافتراضية المسمّاة بوسائل التواصل الاجتماعي أثر ولا وجود؟!
هل ما زالت الناس تتفقد بعضها في أيامك يا رمضان؟! فيصفحون ويسامحون، ويقدمون يد العون للفقير والمحتاج، ويغيثون الملهوف أم أنّ صروف الدهر ونوائبه قد غيّرت القلوب وحوّلت النفوس؟!
أهلا بك، وإن كان بي من لوعة الحزن الكثير، فقد فارقني الكثير ممن أحبهم هذا العام، وطوتهم يد الردى، وغيّبهم الموت في بطن الأرض، ولم أكن أحسب إلا أنهم سيقضون أيامك المباركة معنا على ظهر البسيطة.
جدتي المسكينة كانت تعد الليالي والأيام فرحاً لمقدمك، حتى إذا ما اقترب موعد الوصال وكان قاب قوسين أو أدنى، غيبها الموت، وتخطفتها يد الردى دون أن أراها.
وأنا في بلد بعيد غريب عن أهلي ووطني، يشدني الحنين إليك يا رمضان، وإلى كلّ ما فيك من بهاء وجمال ووقار وسكينة، إلى نداء مؤذّن المسجد للصلاة، إلى صوت المذياع وهو يبث قرآن المغرب، إلى ضوء القناديل الباهت في أزقة البلدة، إلى رائحة الخبز الشهية من يد أمي الحنونة، إلى بائع الخضار المتجوّل الذي كان يحمل بضاعته على ظهره ويدور في أزقة البلدة لبيعها، إلى صوت المسحراتي وهو يوقظ الناس للسحور، إلى مدفع الإفطار، وهو ينطلق إيذاناً بدخول وقت المغرب، إلى أدوات مطبخنا الرمضاني العتيقة، إلى حبات التمر المباركة، إلى عبق القهوة وهي تغلي في الإبريق، إلى ابتهالات المبتهلين في السحر، إلى تلك الأكف الممتدة إلى السماء تلهج بالدعاء لله والثناء عليه سبحانه، إلى حكايات رمضان وأنسه وبركته وروحانيته، إلى أصدقاء طفولتي، وإلى لعُبنا البسيطة وقناديلنا المضيئة، وإلى كلّ شيء يذكرني بجمال تلك الأيام ونور لياليها.
عُد لنا يا رمضان سالمًا في كلّ عام، فلنا بك سلوة، ولنا معك ذكريات. عُد لنا لتمسح من مآقينا الدموع، وتذهب عن نفوسنا الحزن والكدر، وتجلو عن قلوبنا الصدى وتجدّدها بمقدمك السعيد.