ذاكرة مستعملة للتبديل
يخطر في البال سؤال مستمر: "لماذا بالغنا في شراء كل تلك المقتنيات؟ لماذا تبنينا نظرية التوريث لأجيال عديدة من بعدنا؟ أجيال ترث متاعنا وملابسنا ومقتنياتنا الثمينة وكأنها ترث عبئاً ثقيلاً، سيقولون لماذا اشتروا كل هذا؟". وسيقولون بلهجة اتهامية إننا ربطنا أنفسنا بعجلة تقليدية مكررة وثقيلة، ونحن كنا سعداء بأننا نقتني أشياء لا تفنى! كان حريّاً بنا أن نسأل أنفسنا أولاً، أيهما أجدى، متاع لا يتزحزح، ثقيل وغليظ، أم رحلة قصيرة للاسترخاء أو للراحة صوب البحر، أو نحو قرية أصدقاء لنا طالما ألحّوا علينا لزيارتهم ونحن كنا نعاني الأمرّين من حجم الضائقة الاقتصادية، وضغط الأقساط الشهرية، وعبء إيفاء الديون وتلبية احتياجات الأسرة في آن واحد.
تنقض الحروب الذاكرة كلها، تأتي وتجلب معها أسئلة جديدة، أسئلة مدوية ومؤذية، والأجوبة فخاخ مرعبة. أمعن في النظر ملياً في علامات الشحّ المترامي التي يعاني منها النازحون واللاجئون، أعيش ذات الصدمة التي يعيشها البشر الذين أُرغموا على استعمال سطول دهان بلاستيكية للحصول على الطعام الموزع كإعانات، أدقق في الأغطية والشراشف والمناشف والستائر والملابس المحضرة على عجل وبكامل الاضطرار القهري كما يفرضه جو الحرب وتفاصيل النزوح ومظاهر اللجوء.
تختلف الألوان حسب البيئة، تكبر القدور المرتجلة أو تصغر لا فرق، فالأيدي الغضة التي تحملها متغضنة، جافة وضعيفة جداً، يلبس القهر وجوه ضحاياه ويتجول بينهم ومعهم، يتنقلون بانكسار بالغ، والذاكرة باتت شبه مهترئة لكثرة ما استدعت من صور تقارن بين الأمس واليوم!
تنقض الحروب الذاكرة كلها، تأتي وتجلب معها أسئلة جديدة، أسئلة مدوية ومؤذية، والأجوبة فخاخ مرعبة.
ترتجّ الذاكرة وكأنها مصابة برضّ بالغ القوة، تتوه الكلمات، ويفضل البشر ابتلاعها رحمة بقلوبهم أو بقلوب أحبتهم الأكثر ضعفاً منهم، لكن الصور تعصف بالذاكرة فتنكرها وفي أحيان تكرهها وترجوها بضعف لا يوصف أن تبتعد، أو أن تغفو قليلاً، أن تنهزم أمام هذا المدّ المتراكم من تفاصيل العيش الذي تبدل بين لحظة وأخرى، بين ليلة وضحاها، تتحول الذاكرة لطعنات بالغة في القلوب وفي الخيال وفي تفاصيل العيش، وكأنما البشر باتوا على مفترق موت قادم لا ريب، موت يعصف بالذاكرة وأصحابها فيزيد الأذى والأسى أضعافاً.
أما الموت الجسدي فلا يخيف أحداً، يتمناه البعض للخلاص وكأنهم يعلنون أن طاقتهم على الاحتمال قد نفدت، أو قد يظن البعض أنه تحول لمجرد عالة على أحبته، لا وقت لبلسمة الجراح ولا لتخديم القصّر والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، الموت يعصف في الأرجاء وقد تتلخص الحياة هنا على شكل طبق ممتلئ بالحساء أو على شكل غطاء دافئ أو ضمّة حنونة وسط كل هذا الخراب.
لقد خسرنا المعارك كلها، رحلت البيوت وتهاوت، مات الكثيرون، لكنّ ذاكرتهم بقيت معنا، يا لثقل الأعباء وقساوتها! كيف لنا أن نقوم بتحمل محتويات كل تلك الذاكرة المستعملة واليقظة في ذات الوقت! خسرنا المعركة ولم يبقَ للأجيال اللاحقة صورهم حين ولادتهم ولا خزائن أجدادهم ولا فساتين أمهاتهم ولا حتى الأطباق والقدور ومراطبين المونة ورائحة أيدي الجدات وروايات الأجداد.
تؤلمني ذاكرتي كثيراً، تلحّ عليّ فأغضب، لا فسحة هنا إلا لذاكرة الموت، يقتات الغضب على موتنا، نخرجه أنيناً ومزيداً من الرجاء، حتى الدموع رحلت بعيداً! نرتب الموت بطريقة جذابة للذاكرة المخضبة بالرحيل، نستعرض سيلاً ممتداً من الجثامين ونصرخ، هو موتنا المترامي فلتصمت الذاكرة ولتنسَ كل ذاك الإرث العظيم الذي خزنّاه للأحفاد فاحتفلنا بموتهم! أو أنهم قد قرروا البقاء معنا هنا ملاصقين للأكفان تثبيتاً لذاكرة جديدة، لم نخترها ولم نستعملها بإرادتنا، لم نملأها بعد بالصور، إنها ذاكرة مفروضة، تجثم على ذاكرتنا المستعملة، تستبدلها قسراً، تنهبها، تهددها وتطوي في جلبابها كل ما سبق! ممنوع على الذاكرة المستعملة أن تنهض من جديد، وكل ما خزنّاه فيها سابقاً صار بوابة للهجران، للنسيان، وللموت.