ذاكرة الدم.. عن الجنرال أوفقير والحسن الثاني
من يمقتون الجنرال المغربي الراحل، محمد أوفقير، عليهم أيضاً أن يمقتوا الحسن الثاني. لقد كان أوفقير اليد اليمنى للملك التي يضرب بها، اليد البلاستيكية المستعارة، تفادياً لتلطيخ يده. كان ملكاً حذراً وذكياً يحافظ على نظافة يده ما أمكن، بينما كانت يد أوفقير مخلوقة لذلك، للنبش في الجلد والدم والعظام.
في الوقت الذي ولد فيه الحسن الثاني في قصر تحيط به الحدائق والرياض والخدم والحشم واللغة الأنيقة والسفراء والوزراء والضيوف من ملوك وسلاطين ورؤساء، ولد أوفقير قرب رشاش. رجل طويل دون مناسبة، عيناه صغيرتان كعيني بوعميرة، أنفه معقوف كمنقار البوم، أذناه مائلتان في اتجاه الصدى كأذني ابن آوى. من حرب إلى حرب، اعتاد الجنرال الدم والجثث والصراخ والعويل. بدم بارد يطلق الرصاصة، وبدم مثلّج كدم الطبيب يُغلق عيني القتيل ويذهب ليرتشف من قهوته. لم يكونا من عائلة واحدة، ولا من طبقة اجتماعية واحدة، سوى أنّ السلطة توحّد الملك بالقاتل المتسلسل والشريف بالنذل والنبيل باللص، حيث شجرة العائلة الحقيقية لكلّ المتسلطين هي المال والموت.
كان الحسن الثاني مستعداً لقتل كلّ معارضيه من أجل البقاء ملكاً، حتى وإن فعل ذلك بأيدي أشخاص آخرين من أصول دنيئة كأوفقير أو كالدليمي أو كالبصري، وكان أوفقير مستعداً لقتل الجميع من أجل الوصول إلى الحكم والسلطة والهيمنة، ليس بأيدي غيره، بل بيديه. حين يتفق القتلة يصيرون أصدقاء، وحين يختلفون يقتلون بعضهم. الأسرع إلى الزناد هو من يفوز، هو من يبقى، هو من يسود. الذكر المهيمن داخل القطيع يسحق كلّ الذكور الأخرى، وخصوصاً الذكور القوية.
السلطة توّحد الملك بالقاتل المتسلسل والشريف بالنذل والنبيل باللص، حيث شجرة العائلة الحقيقية لكلّ المتسلطين هي المال والموت
سيرة أوفقير سيرة ملطخة بالدم من بدايتها إلى نهايتها. طموحه كان أكبر من طموح أصحاب الأوسمة والتشريفات. إنه طموح المحارب، وليس طموح "السيفيل". كان يريد الكعكة كاملة بكلّ دمه الرجولي المتأصّل من قطاع الطرق. كان يملك كلّ شيء تقريباً، كان المقرّب الأول للملك وكاتم أسراره والموّسوس في أذنيه والضارب بيده. كان الرجل الحديدي مرعب الشعب باسم الملك. كان الكلّ في الكل، سوى أنه كان ملزماً بالانحناء وتقبيلِ يد الملك. أتخيّل أنه كان يعود إلى بيته بعد اجتماع مع الملك، يفكّ ربطة عنقه كأنها تخنقه، ينهار على الأريكة الفاخرة، يتجرّع الويسكي وحيداً كما لو أنه يتجرّع السم، ويدخن محدقاً في السقف بذلّ...
جينات قطّاع الطرق الدنيئة تشبه تماماً جينات الملوك، لا تقبل الخضوع لأحد ولا الانحناء لأحد. كان أوفقير يملك كلّ شيء تحت جناح الملك، السلطة والمال والوجاهة، سوى أنّ ذلك كله كان مخصياً. أراد أن يملك عزّة نفسه أيضاً، ووقوفه المنتصب، المستقيم الإلهيّ. أراد أن يخرج إلى الضوء، وليس أن يظل قابعاً كالشبح المرعب في العتمة. أراد أن يسطو على شاشة التلفزيون، وأن يخاطب الشعب المغربي: شعبي العزيز، أو: شعبي الحر، أو: أبنائي. فالديكتاتور المتسلّط تريحه هذه العبارات التي تمزج عاطفته السادية في عاطفة الشعب المازوشية وتتماهى فيها. يتحوّل عبرها من القاتل الجبّار الظالم المتسلّط إلى الأب الحاني الذي يضرب ليقوم، وليس ليكسر ويقتل، ليحمي وليحيي، ويظلم ليعدل. على الشاكلة نفسها كان جمال عبد الناصر، ومن بعده السادات، وكذلك كان صدام، وكان القذافي، وكان حافظ الأسد... وكانوا جميعاً في كلّ مكان وزمان، آباء بالسوط في أيديهم، بالرشاش في أيديهم، بالدبابة في أيديهم... يقوّمون أبناءهم بساحات الإعدام، وبالقتل الغامض بالسم أو بحوادث السير، بسيارات غير مرقمة أو بالمعتقلات السرّية الرهيبة. حين كانت أجساد المعتقلين تتحوّل إلى هياكل عظمية بشعور ولحى كثيفة كسكان الكهوف البدائيين، يلحسون الجدران باحثين عن قطرة ماء، كان الآباء الشفوقون يلعبون الغولف ويقرعون أنخاب الشامبانيا ويغيّرون ثيابهم الباهظة كما نغيّر نحن آراءنا وولاءنا بسرعة البرق.
حين يتفق القتلة يصيرون أصدقاء وحين يختلفون يقتلون بعضهم
كان أوفقير من طينة أولئك الآباء المهيئين للأبوة الحديدية القاتلة، ولم يكن قادراً على مواصلة دور الابن المطيع أمام الحسن الثاني. سوى أنّ الحسن الثاني كان أباً أكبر منه، رغم أنه أصغر منه سناً، وأذكى منه، وأقوى منه، ولم يقبل أن يصير الأب المقتول الذي يرث عرشه ابنه القاتل. كان لا بد للبلاد من أب واحد ومن ملايين الأمهات، وكان على الرجال الذين لا يريدون لرؤوسهم أن تُقطع أن يمثّلوا دور الأم، دور الزوجة، ودور البنت العاشقة لأبيها المتيّمة به، المغرمة به.
كان لا بدّ للبلاد من أب واحد، وقد تصارع كلّ من ظنّ في نفسه الأب حول تلك الأبوة، صراعاً طبيعياً بالأسلحة والدسائس والمؤامرات، صراع ديكة حكيمة ورزينة وداهية ودموية. وكلّ ما حدث، هو أنّ الحسن الثاني الأب الأول استطاع القضاء على كلّ الآباء المنافسين، ابتداءً من اعبابو والمذبوح إلى أوفقير والدليمي، وغيرهم كثير.
لا يمكننا اليوم الحديث عن خائن ووفي، عن بطل وعن نذل، عن رمز وعن عار، لا يمكننا اليوم سوى النظر إلى تاريخ البشر بعيون جاحظة كعيون الموتى والبقاء صامتين، لأنّ الكلام مصيدة، الكلام شراك، الكلام رصاص ينطلق من فم صاحبه عبر بندقية مقلوبة في اتجاهه. لا يمكننا إلا النظر، ومن ثمّة الالتفات بعيداً حيث السماء الملغزة.
السلطة لا تصنع إلا بالحديد، والملك لا يُبنى إلا على الجماجم، والجاه لا يُشيّد إلا بالظلم والغبن والخديعة. إنهم جميعاً الآلة نفسها، الآلة المعدنية القاتلة ذات القلب الرقيق، الآلة التي تقتل وتنسى، تفتك وتضحك، تدمّر وتغني.
جينات قطّاع الطرق الدنيئة تشبه تماماً جينات الملوك، لا تقبل الخضوع لأحد ولا الانحناء لأحد
وأنت تسمع الضابط يقرأ لائحة الضباط الذين حكم عليهم بالإعدام في الماضي، والذين سيحكم عليهم بالإعدام في المستقبل، في كلّ الدول والبلدان والحروب وعبر التاريخ، ستعرف أنّ اليد التي تسبق إلى الزناد هي نفسها اليد التي تصنع العدالة، كما لو أنّ العدالة هي القدرة القصوى على القتل عوض أن تكون القدرة القصوى على السلم.
لو أنّ انقلاب أوفقير نجح لصرخ الشعب باسم الجنرال: عاش الجنرال، عاش البطل، عاش محرّر المغاربة من الملوك والسلاطين الفاسدين، عاش الأب الجديد والخزي للأب القديم... لو أنّ الانقلاب نجح لانقلب بسرعة كلّ الأوفياء للملك إلى هجّائين بارعين له، فهم أول من يعرف أسراره وهناته وسقطاته...
مع قليل من التوابل والبخور، كان الشعب سينسى بسرعة كلّ الدم الذي تقاطر من ساعدي أوفقير ويصنع له هالة الشرفاء والأولياء والسلاطين، وبالسرعة نفسها سينسى كلّ مدحه للحسن الثاني وكلّ هالته وهيلمانه، ولن يرى فيه إلا ذلك النذل الصغير، القاتل، ناهب ثروات البلاد والعباد.
للشعوب دائماً، وعلى مرّ التاريخ، ذاكرة الأسماك.
بينما للآباء الحمقى الحاكمين أو الساعين للحكم ذاكرة واحدة فقط، ذاكرة مشتركة، لا تَنسى ولا تُنسى هي: ذاكرة الدم.