دستور 2011 ومطلب الانتماء الثقافي للمغرب
أجاب دستور 2011 على سؤال حول طبيعة هوية الانتماء الثقافي للمغرب من خلال التأكيد في الديباجة على أنّ "المملكة المغربية، الدولة الموحدة، ذات السيادة الكاملة، المنتمية إلى المغرب الكبير"، ليشكل بذلك قفزة نوعية في تاريخ الدساتير التي عرفها المغرب بعدما اختفت عبارات مثل "المغرب العربي" وغيرها من عبارات ذات حمولات سياسية ودلالات إقصائية لا تنسجم مع منطق الواقع والتاريخ والجغرافيا.
هكذا يكون دستور المملكة المغربية قد أجاب عن أحد المطالب الهامة التي ظلّ الفاعل الأمازيغي يرفعها منذ الحصول على الاستقلال، وخاض من أجلها معارك فكرية وإيديولوجية وصراعات سياسية ضد دعاة أنصار التوجه العروبي، ويطرحها في كلّ مناسبة تهم تعديل الوثيقة الدستورية.
طُرح هذا المطلب تاريخياً من قبل محجوبي أحرضان الملقب بـ"الزايغ" ورفاقه إبان الإعداد لأول دستور للمملكة سنة 1962، إذ قاموا بممارسة نوع من "الضغط" على الراحل الحسن الثاني من أجل التراجع عن صفة أنّ المغرب "مملكة عربية إسلامية" الواردة في القانون الأساسي للمملكة كإطار ممهد للدستور سنة 1961.
هذا الأمر فسّره الدكتور عبد اللطيف أكنوش بطبيعة الصراع الحاصل آنذاك بين المؤسسة الملكية وحزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية حول السلطة، وكيف أنّ الملك الراحل الحسن الثاني جعل من هذه المسألة رهاناً للمزايدة في صراعه مع الضباط الأحرار القوميين في المشرق العربي، ومع أتباعهم من الحركة الوطنية في الداخل، فرسالته كانت تقول لهم إنني "قومي عروبي أكثر منكم". وفعلاً، تفاعل الملك الحسن الثاني مع هذا المطلب في دستور 1962، حيث تمّ التخلّي عن صفة "العربي" مقابل أنّ المغرب جزء من "المغرب الكبير" دون إعطائه صفة "العربي".
سيظل الوضع كما هو عليه خلال محطتي دستور 1970 ودستور 1972، لكن التعديل الدستوري سنة 1992، سيعرف تحوّلاً في موضوع هوية الانتماء الثقافي للمغرب، إذ تمّ التنصيص على عبارة "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية، وهي جزء من المغرب العربي الكبير".
يستحق دستور 2011 في المغرب أن يصنّف بانتمائه لجيل دساتير الحقوق والحريات والهوية بامتياز
تحكمت في هذه العبارة المتضمنة في دستور 1992 طبيعة السياق السياسي الوطني والإقليمي الذي تميّز بـ"اتفاق مراكش" سنة 1989، وتأسيس تكتل "اتحاد المغرب العربي" واستعداد المغرب لإنهاء النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية ودمجها داخل الوطن الأم، والتي لها أبعادها المرتبطة بالعروبة الحسانية وبالمغرب الكبير، وكان خلفية ورود هذه الصفة في الدستور، حسب الأستاذ أكنوش، تحييد دور الجماهيرية الليبية في الصراع الدائر حول أقاليمنا الجنوبية، وكذا إضعاف موقف الجزائر من هذه القضية، حيث عمد الملك الحسن الثاني استراتيجياً إلى المزايدة من جديد، فجاءت ديباجة الدستور بعبارة "المغرب العربي الكبير" عوض "المغرب الكبير"، وهي نفسها العبارة التي سيتم الاحتفاظ بها في مراجعة الدستور سنة 1996.
ظلّ هذا المطلب حاضراً في طروحات الحركة الأمازيغية على وجه الخصوص، ترفعه في كلّ مناسبة يتم الحديث فيها عن تعديل الوثيقة الدستورية المبنية على أسس تاريخية وسوسيو ثقافية وحقوقية، ولا سيما أنّ الخزانة الوطنية تسجل وجود دراسات علمية قيّمة وأبحاث أكاديمية هامة حول إشكالية الهوية والانتماء الثقافي للمغرب.
وتجدر الإشارة إلى أنّ المذكرة التي سبق أن رفعتها الجمعيات الثقافية الأمازيغية إلى الديوان الملكي في موضوع التعديل الدستوري سنة 1996، تضمنت مطلب التنصيص على "انتماء المغرب إلى شمال أفريقيا وسعيه إلى دعم وحدة شعوب هذه المنطقة، اعتماداً على روابطها البشرية والتاريخية والحضارية".
يبقى دستور 2011 محطة تاريخية متميزة ليس من حيث السياق المحلي والإقليمي الذي طبعه، ولا من حيث أسلوب ومنهجية إعداده، بل في تعاطي الدولة بكلّ جرأة ووضوح مع إشكاليات كبرى، منها قضية الهوية في شموليتها
وسيعرف هذا الموضوع تطوّراً جوهرياً في ظلّ دستور 2011، إذ سيتم التخلي عن صفة "المغرب العربي الكبير" الواردة في دستوري 1992 و1996، مقابل عبارة "المغرب الكبير". وقد تضمنت ديباجة الدستور ما يلي: "المملكة المغربية، الدولة الموحدة، ذات السيادة الكاملة، المنتمية إلى المغرب الكبير". وهي عبارة تندرج في سياق المصالحة المؤسساتية الشاملة المعتمدة بالمغرب بعد سنة 1999، مصالحة تهم الإنسان واللغة والثقافة والهوية والانتماء، وانتصرت بذلك لمنطق العقل والتاريخ والجغرافيا.
يلاحظ المتتبع أنه بالرغم من هذا التحوّل النوعي، إلا أنّ تصدير دستور 2011 تضمن بعض العبارات التي قد تطرح أكثر من تساؤل، إذ ورد أنّ المملكة المغربية تؤكد وتلتزم "بتعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية الإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة"، وهو أمر "يشوّش" على هذا التحوّل، ولا سيما أنه لم يورد في الدساتير السابقة للمملكة التي تفادت الحسم في هذا الإشكال ونصّت على ترسيم اللغة العربية دون الانتماء العربي للمغرب.
لكن يبقى دستور 2011 محطة تاريخية متميزة، ليس من حيث السياق المحلي والإقليمي الذي طبعه، ولا من حيث أسلوب ومنهجية إعداده، ولا من حيث الكم الهائل من الأوراق والمذكرات التي أغنت النقاش العمومي، بل في تعاطي الدولة بكلّ جرأة ووضوح مع إشكاليات كبرى، منها قضية الهوية في شموليتها، إذ أقرّ الدستور شرعية التعدّد في بعده اللغوي والثقافي والهوياتي، وأوضح قضية الانتماء الثقافي للمغرب، وأرسى مقومات مقاربة مؤسساتية لتدبير التعدّد اللغوي والتنوّع الثقافي بالمغرب. وهو بذلك يستحق أن يصنف بانتمائه لجيل دساتير الحقوق والحريات والهوية بامتياز.