أين اختفى المثقف المغربي؟
أستعير سؤالا أطلقه الكاتب البريطاني وأستاذ علم الاجتماع في جامعة كينت، فرانك فوريدي: "أين ذهب كلّ المثقفين؟"، وهو السؤال الذي تحوّل في ما بعد إلى عنوان كتاب لذاتِ المؤلف.
عندما تُواجه الدولة ظروفًا صعبة، وتعرف تحوّلات عميقة تمس بنياتها، ويغيب المثقف، وتصبح أدواره لا تأثير لها، فاعلم أنّ هناك خللًا أصاب، ليس البنية الثقافية، بل المجتمع بأكمله. لماذا؟ لأنّ المثقف بطبيعته ينخرط في النقاش ويرفض الصمت، ينتصر لقيم الحرية والكرامة، ويرافع من أجل العدالة الاجتماعية، ويلعب دور الحكيم، ويشكل ضمير المجتمع.
يقترب هذا الوصف من واقعنا. فالمغرب يعيش دينامية سياسية واجتماعية غير مسبوقة نتيجة تأثير أحداث كبرى يعرفها العالم كالحرب الروسية ضد أوكرانيا، بكلّ ما تملك من ثقل في رسم توازنات جيوسياسية دولية جديدة، وكذلك حرب غزّة التي أعادت قضية فلسطين إلى الواجهة الدولية كأساس وجوهر النزاع في منطقة الشرق الأوسط، وحرّكت الرأي العام المتعاطف معها في مختلف بقاع العالم.
استطاعت هذه الوقائع وغيرها، في تزامن مع أحداث عشناها على الصعيد الوطني، كزلزال الحوز، والهجمات الإرهابية في السمارة، واحتجاجات رجال التعليم وأحداث أخرى، خلق دينامية داخل المشهد الوطني أثارت مجتمعة، نقاشًا كبيرًا وطرحت العديد من الأسئلة. لكن الملاحظ في ظلّ هذا الوضع، أنّ أهل البنية الفوقية شبه مختفين، لم نسمع لهم صوتًا إلا في حالات استثنائية نادرة، في حين أنّ المنطق والطبيعي أن يكون المثقف، انطلاقًا من مكانته وأدواره التنويرية، في طليعة هذه الأحداث، يحلّل تطوّراتها ويرسم السيناريوهات ويكشف المستور.
إنّ المجتمعات الحيّة في حاجة إلى مثقفين يقولون الحقيقة، لا يصالحون السلطة، متحرّرين من كلّ القيود، أقوياء لا يسقطون تحت أقدام أصحاب المصالح، وينتصرون لقضايا المجتمع والوطن
وبما أنّ الطبيعة تخشى الفراغ، فقد أنتج لنا انسحاب المثقف وضعًا شاذًا في ظلّ تراجع الهيئات الوسيطية، غاب معه البعد التنويري والحس النقدي وساد التراشق والخطاب اللامجدي، والاتهامات والاتهامات المضادة، واختفت الحقيقة بكلّ معانيها.
لقد اختفى مثقفونا كسلوك احتجاجي ضد سياسة استهدفت في السابق الفكر والثقافة، وأيضًا كجواب طبيعي على خيارات معينة، ولِما آل إليه الوضع الحالي، والنتيجة أنّنا نعيش فراغًا شبه قاتل.
إنّ الدينامية التي يعيشها المغرب كان يجب أن تفتح شهية مثقفينا لاحتلال النقاش العمومي بأفكارهم وتحاليلهم، لاسيما وأنّ بلادنا تزخر بأسماء وازنة، من قبيل عبد الله العروي، وعبد الله حمودي، ومحمد الشرقاوي، وعبد الإله بلقزيز، وعبد الله ساعف، وعبد اللطيف أكنوش، وحسن أوريد، ومحمد كلاوي، وحسن رشيق، ومحمد الطوزي، وإدريس بنسعيد، وعبد الحي المودن، وكمال عبد اللطيف، وسعيد بنسعيد، وعبد السلام بنعبدالعالي، ومحمد برادة، وعبدالفتاح كليطو، وطه عبدالرحمان، وعبد القادر الفاسي الفهري، وأسماء أخرى لم نعد نسمع لها صوتًا إلا نادرًا.
إنّ المثقف يمارس بطبيعته الضغط على الدولة والأحزاب السياسية من خلال نشر الوعي التنويري وتفسير الوضع، وكشف الحقائق، ووضع اليد على الاختلالات. أمّا أن يركن إلى الانعزال أو البحث عن الحياد وتبني خطاب التبرير باسم الواقعية و"العقلانية"، فإنّ ذلك لا يتطابق مع أدواره ووظائفه، سواء بالمفهوم الغرامشي، أو من خلال الحديث عن نموذج الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر.
لا يمكن تصوّر نهضة مجتمع في غياب نخب فكرية تقوم بأدوار نقدية ووظائف تنويرية
إنّ المجتمعات الحيّة في حاجة إلى مثقفين يقولون الحقيقة، لا يصالحون السلطة، متحرّرين من كلّ القيود، أقوياء لا يسقطون تحت أقدام أصحاب المصالح، وينتصرون لقضايا المجتمع والوطن.
من هذا المنطلق، أتاح غياب المثقف تحوّل النقاش داخل الساحة الوطنية في الإعلام العمومي ومنصّات شبكات التواصل الاجتماعي إلى ما يشبه الفوضى، مثيرًا الكثير من الاشمئزاز على واقع عنوانه العريض "الرداءة"، مع وجود استثناءات بالطبع.
لقد أظهر التاريخ أنه لا يمكن تصوّر نهضة مجتمع في غياب نخب فكرية تقوم بأدوار نقدية ووظائف تنويرية، نخب يحتضنها المجتمع على اعتبار أنّها هي من يرسم معالم الطريق ويفتح الأفق لكون رؤيتها للقضايا المجتمعية الكبرى أوسع وأبعد.