درنة... حين ينخر السوس مدينةً كاملة!
في وطننا العربي، بعد مائة وعشرين بحثًا عن موضوع واحد طارئ، قد يقتنع الطغاة بضرورة اتخاذ خطوات لتجنّب المزيد من الصداع، وبعد أن يحتاج الموضوع (لأهميته) مليار دولار، يقلّصون ميزانيته إلى عشرين مليون دولار، ثمّ حين يبدأ التنفيذ يصل صافي الميزانية المتبقي إلى مليون دولار، ثمّ حين ينتهي تنفيذ المشروع قد يعقد الرئيس حفل افتتاح بتكلفة مليوني دولار، من أجل المشروع الذي نُفّذ بمليون دولار، ثمّ بعد قليل، عند أقرب اختبار، ستكتشف أنّ تكلفة المشروع، بعد انهياره، يستحيل أن تتجاوز العشرين دولارًا.
لم تكن مدينة درنة الليبية استثناءً من هذه المعادلة العربية الأصيلة، التي لم يضعها الخوارزمي ولا البيروني، وإنّما كانت من إبداع الحكام العرب، وحكوماتهم. "درنة" التي حُذّر الحكام منذ خمسة عقود من خطر الفيضان عليها، ومن تجمّع المياه في الوديان بأكثر من 20 مليون متر مكعب، بما يفوق طاقة الاحتمال، وضرورة إنشاء سد، لم يُنشأ في النهاية إلا بعهد القذافي من "قفا إيد" النظام (كما يقول السوريون)، ومن مكوّنات ربّما توازي تلك التي يصنع منها الأطفال قصورًا رملية على الشاطئ، فتنهار مع أقرب موجة، ليبكوا بعدها... لكن الفارق أنّ الحكام مهما هُدمت تلك السدود لن يبكوا، وإنّما سيعلنون الحداد ويخطبون في الناس لتجاوز الكارثة، التي كان يمكن تفاديها لو أنّهم اختاروا للسدود ولمرافق البلاد المواد ذاتها التي يختارونها لبناء قصورهم الحصينة.
ثم توالت الدراسات، بعدما أنذر ثقبٌ في أحد السدين من خطرٍ عظيم، وذهب القذافي وتوالت الأحداث، وتمكّن الفساد العسكريّ من البلاد، واعذرني لكثرة الاستدراك، لكنك لو كنت تكتب هذا المقال فلن تستطيع ذكر "الفساد العسكريّ" من دون عقد مقارنة بينه وبين "الفساد الحكوميّ"، وكلاهما مرّ، لكن الفساد العسكريّ يتفوّق على أيّ نوع آخر، إنّه نوع فاخر يليق بالبدلة "الكاكي" حين يتم تقاسم التورتة، ويخرج كلّ ملياردير من المجالس العسكرية بنصيب في المصلحة، وتتوّزع مخصّصات الدولة على الرتَب من أعلى إلى أسفل، ويهتم مجانين الجيش ببناء ترسانة عسكرية في الصحراء، سعرُ طائرة واحدة فيها كان سيجنّب البلاد كارثة تمحو 25% من أهم مدنها من على وجه الأرض، وتتسبّب في مصرع نحو 20 ألف إنسان، وفقدان ضعفيهم، وتفشّي الأوبئة وتحلّل الجثث، وتخليف مدينة من الأشباح، كانت ذات يوم قريب، قبل أسبوع على الأكثر، المدينة البهية الخضراء الغنّاء، الواقعة على البحر، التي تتمنّى زيارتها دهرًا لو أنك رأيتها في صورة واحدة.
الفصل الأكثر رعبًا من الرواية أن يتمكن السوس الذي أكل "درنة" من أكل مدن عربية أخرى كاملة، بينما لا يهتمّ المسؤول إلا بابتسامته الناصعة!
ينشغل الساسة بالتنزّه في المنتجعات وقضاء العطلات وأخذ اللقطات أمام الجماهير وعدم الانتباه لمصالح البلاد؛ فتحدث المصائب بسبب "الإهمال"، وينشغل العسكريون بالانقلابات والقتل والاعتقالات وتقييد الحقوق وقمع الحريات واغتيال المعارضين وتحويل المدن إلى ثكنات عسكرية وعقد الصفقات من تحت الطاولة، فتموت المدن بسرطان "الفساد"؛ وفي "درنة" الليبية العزيزة، حيث حزننا الكبير الأخير حتى الآن، وجدنا الاثنين، إهمال الحكومات وفساد الأنظمة، بين جنون القذافي وهوس حفتر!
دراسات كثيرة عُرضت، وتحذيرات أطلقت، وأكاديميون ومتخصّصون نادوا حتى بُحّت أصواتهم، لكن لا يأخذ الحكام العسكريون بالدراسات، ولا جدوى من مناداتهم بدراسات الجدوى، على اختلاف أمصارهم ومناطق انقلاباتهم وحكمهم. فالعقلية البائسة واحدة، وأقصد هنا انقلابيي العسكر المهووسين بالسلطة لا العسكريين بوجه عام، والكارثة على حجمها المروّع المحزن القاتل في "درنة"، إلا أنّ الكارثة الأكبر هي الكوارث التي لم تُفضح بعد، وأخشى ما أخشاه أن تحمل الشهور القادمة، الفصل الأكثر رعبًا من الرواية، أي أن يتمكن السوس الذي أكل "درنة" من أكل مدن عربية أخرى كاملة، بينما لا يهتمّ المسؤول إلا بابتسامته الناصعة!